وهي قراءة جديدة في معاهدة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وصاحب هذه الرؤية العلامة المحقق السيد سامي البدري (دام توفيقه) حيث يقول: إن قضية صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية تعد - كما تصورها لنا المصادر التاريخية الأولى - من أخطر القضايا وأشدها تشويشا في تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) من جهة، وفي تاريخ العراق الإسلامي المبكر من جهة أخرى، وذلك لأن القراءة الأولية للمصادر التاريخية الإسلامية حول الموضوع تفرض على القارئ أن يخرج بانطباعين سلبيين هما:
الأول: الانطباع السلبي الشديد عن العراقيين الأوائل الذين عاصروا الأئمة عَلياً والحسن والحسين (عليهم السلام) في الكوفة خاصة، وهو الانطباع السائد لدى كل من درس الموضوع أو كتب فيه، وهو: كونهم متفرقين متخاذلين - طالما تمنّى عليٌ فراقهم، غير قادرين على النهوض بدولة مستقلة بهم نظير ما صنعه الشاميون مع معاوية، بل كان بعض العراقيين -كما في بعض الروايات - يفكّر بتسليم الحسن (عليه السلام) حيا إلى معاوية!!!، ولذلك اضطر الحسن (عليه السلام) إلى تسليم الأمر لمعاوية!! وهذا الانطباع يستوي فيه القارئ المسلم بغض النظر عن مذهبه.
الثاني : الانطباع السلبي عن شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) لدى القارئ الذي لا تربطه معه (عليه السلام) رابطة الاعتقاد بإمامته وعصمته، ولا رابطة الاعتقاد بوجوب محبته واحترامه، لأنه من أهل البيت (عليهم السلام)، كالمستشرقين الذين كادوا يجمعون على كون الإمام الحسن (عليه السلام) شخصية غير جديرة بأن تكون ابنا لعلي!!! وأنه باع الخلافة بدراهم من أجل شهواته!!! .
أمّا القارئ المؤمن بعصمة الإمام الحسن (عليه السلام) فلا يؤثّر عليه ذلك الركام الهائل من الروايات الطاعنة في شخصيته، لإيمانه المسبق بأن الإمام الحسن (عليه السلام) منزّه عن ذلك، وأن تلك الروايات لا بدّ أن تكون موضوعة من قِبل أعدائه لتشويه صورته.
ولكننا خرجنا برؤية مخالفة للرؤية السائدة، مع كشف أسرار جديدة للصلح وأَلَقٍ كبيرٍ في شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) صاحب القضية التي نهض بها ونظَّر لها، إذ تُبيّن الرؤية الجديدة أن الإمام الحسن (عليه السلام) قد صالح عن قوة وليس عن ضعف، فهو أشبه بصلح الحديبية بل امتداد له في الهدف والأسلوب، وتوضيح ذلك: إن معاوية بعد أن بايعه أهل الشام بادر يطلب الصلح من الإمام الحسن (عليه السلام) الذي بايعه أهل العراق حاكما خَلفَا لأبيه علي (عليه السلام)، وهو أن يبقى الإمام الحسن (عليه السلام) على البلاد التي بايعه أهلها وهو النصف الشرقي للبلاد الإسلامية، وأن يبقى معاوية على النصف الغربي من البلاد الإسلامية حيث بايعه أهلها على الحكم.
ومبررات هذا الصلح واضحة لدى معاوية فهو بين ضغط حلقات الخوارج الخفية من الداخل التي تستهدف اغتياله وضغط الروم على الحدود الشمالية الشرقية وجيشهم على أهبة الاستعداد لغزو الشام، ولم يكن معاوية ليجمّد شن الغارات على أطراف علي (عليه السلام) دون مكسب سياسي يسجّله لصالحه، ومن هنا عرض الصلح على الحسن (عليه السلام) – وقد عبّأ جيشه للقتال مضافا إلى تعبئة أبيه علي (عليه السلام) – لكي يؤمّن جهته بالمصالحة ويتفرغ للمشكلتين الآنفتي الذكر، فكان الإمام الحسن (عليه السلام) أمامه أحد خيارين:
الأول: قبول أطروحة الصلح بالصيغة التي قدمها معاوية وهي أن يبقى الإمام الحسن (عليه السلام) على حكم النصف الشرقي للبلاد الإسلامية، وأن يبقى معاوية على حكم النصف الغربي من البلاد الإسلامية، وهو الذي كان يطمح إليه معاوية ويرغب فيه وقد عرضه على الإمام علي (عليه السلام) أيام حكمه.
الثاني: رفض الصلح واللجوء إلى الحرب، ولم يكن جيش الإمام الحسن (عليه السلام) قاصرا عن خوض معركة كالتي خاضها زمن الإمام علي (عليه السلام)، بل كان الجيش قد تعمقت بصيرته بالإمام علي (عليه السلام) واجتمعت كلمته عليه بعد حرب النهروان خاصة.
أعرض الإمام الحسن (عليه السلام) عن الخيار الأول، لأنه يؤدي إلى تكريس الانشقاق في الأمة مع تكريس ثقافة العداء للإمام علي (عليه السلام) في الشام، إضافة إلى كونه مخالفة صريحة لرغبة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في عدم إبقاء معاوية على ما هو عليه.
وأعرض عن الخيار الثاني لتقديره أن الحرب لم تَعُد- بَعدَ تعقيد الحالة- هي الأسلوب الصحيح للعلاج، مضافا إلى أن رفع شعار السلم يقتضي الاستجابة له.
وهكذا فاجأ الإمام الحسن (عليه السلام) خصمه معاوية بخيار جديد لم يَدُر في خَلَدِه، وهو أن يسلّم أمر العراق إلى معاوية لتكون الأمة موحدة بحاكم واحد هو معاوية، ولكن اشترط الإمام الحسن (عليه السلام) شروطا:
إلى آخر شروطه (عليه السلام)، ووضع وثيقة تنازله المؤقت عن السلطة بتلك الشروط.
لقد استمد الإمام الحسن (عليه السلام) روح هذه الأطروحة الذكية من صلح الحديبية وحقق بها فتحا مبينا بكل معنى الكلمة.