المؤمنون عن اللغو معرضون

قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)

 ((اللغو)) هو كل قول أو عمل لا فائدة فيه، وقد فُسِر بمعان أخرى كالباطل، والمعاصي كلها، والكذب، والسباب أو السباب المتقابل، والغناء واللهو واللعب، والشرك، ولكن ما ذكر ليست معاني متقابلة للغو، بل إن هذه المعاني كلها مصاديق ذلك المفهوم العام.

فاللغو ـ في الإسلام ـ من الأعمال المباحة التي لا ينتفع بها لا في الآخرة، ولا في الدنيا بما ينتهي أيضاً إلى الآخرة، كالأكل والشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوّي على طاعة الله وعبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة، ولا في دنيا تنتهي بنحوٍ ما إلى آخرة، فهو اللغو.

وقد وردت روايات عديدة في هذا المجال منها:

عن إدريس (عليه السلام) - من دعائه -: اللهم سَلِّ قلبي عن كل شيء لا أتزوده إليك، ولا أنتفع به يوم ألقاك، من حلال أو حرام[1].

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تقولن ما يوافق هواك وإن قلته لهوا أو خلته لغوا، فرب لهو يوحش منك حرا، ولغو يجلب عليك شرا[2].

وعنه (عليه السلام): اشتغال النفس بمالا يصحبها بعد الموت من أكبر الوهن[3].أبو عبد الله (عليه السلام): ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا))
قال: يسأل السمع عما سمع والبصر عما نظر إليه والفؤاد عما عقد عليه[4].

اللغو في القول والفعل والاعتقاد:

وطبيعي أن اللغو لا يعني الأفعال والكلام الذي لا فائدة منه فحسب، وإنما يشمل الآراء التافهة التي لا أساس لها، التي تنسي العبد ربه وتشغله بها دون الأمور المفيدة.

والحقيقة أن المؤمنين لم يخلقوا من أجل الانشغال بآراء باطلة أو كلام تافه، بل هم معرضون عنها، ولذا قال القرآن الكريم: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) حقا نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجه لهدف واحد مفيد وبنّاء[5].

اللغو أمر نسبي:

 ويختلف الفعل في كونه لغوا باختلاف الأشخاص وما يعود عليهم من نفع وعدمه من ذلك الفعل، فرب فعل هو لغو بالنسبة إلى شخص، وهو بعينه مفيد مجدٍ بالنسبة إلى شخص آخر، فاللغو مقولة نسبية، فقد يكون لإنسان برنامج معين في التلفاز في مجال تخصصه، بينما يجد إنسان آخر هذا البرنامج لا يعنيه.. فهذا البرنامج يعتبر للأول مفيدا، وبالنسبة للآخر فهو لغو.. فعلى المؤمن أن ينظر إلى دائرة اللغو في حياته.. فإذا كان هو غير معني بهذا الأمر، فهو إنسان مشتغل باللغو، وقد قيل: بأن كل نظرة لا عبرة فيها، فهي لغو أو سهو.. وكذلك إن كل قول ليس فيه حكمة، فهو لغو أو سهو.

 وأما من الجانب الفقهي فلا يمكن القول بأن كل صور اللغو محرمة.. فمثلاً: إذا كان الإنسان يقوم بلعبة غير قماريه، ومن دون مرابحة، فمن الناحية الفقهية تكون هذه اللعبة جائزة.. ولكن المؤمن يعرض عن هذا اللغو، فهي ليست من صفات المؤمنين وإن كانت أمورا غير محرمة.

الفرق بين الترك والاعراض:

لم يصف الله تعالى المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الإنسان دائما في مَعرض العثرة ومَزلة الخطيئة وقد عفا الله سبحانه وتعالى عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)[6]، بل وصف سبحانه المؤمنين بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه، فتعبير الآية دقيق، فلم يقل الله تعالى: الذين هم للغو تاركون، بل قال: (مُعْرِضُونَ).. والإنسان المعرض هو الذي يعتقد بتفاهة الشيء، فلا يتعلق قلبه بها، فهناك فرق بين أن يترك الانسان الشيء وقلبه غير متعلق به وبين من يترك الشيء وقلبه متعلق به، فكان تركه خوفاً أو طمعاً أو حياء من الناس.. ومثال ذلك في الشريعة: أن أكل الخبائث غير جائز.. فأكل الحشرات والهوام التي لا يمكن أن تؤكل والقاذورات والحشائش كلها غير جائزة الأكل، ومع ذلك فالشارع المقدس، لم يذكر آية واحدة - في القرآن الكريم - في الزجر عن أكل الحشرات المضرة، أو التي لا يمكن أن تؤكل.. لأن الناس بطبيعتها معرضة عن أكل الخبائث.. والمؤمن يصل إلى درجة، يكون انصرافه عن اللغو، بحيث لا يحتاج إلى معاناة.. فاشتغاله باللغو إذا أجبر عليه يحتاج إلى معاناة، مثلاً أن ينظر إلى برنامج غير هادف، مراعاة إلى جو معين، أو أي هدف كان.. فإنه يعيش في حالة من الغليان الداخلي، لأنه ينظر ويشتغل بشيء هو معرض عنه.. ولهذا فإن الإنسان المحب للغو، ويحب ما لا نفع فيه.. ولكن يمنع نفسه منعاً، ويكبح جماحها كبحاً.. فإن هذا الإنسان غير مؤمن واقعي، لأنه غير معرض عن اللغو..

فإعراض المؤمن عن اللغو لازمه ترّفع النفس عن الأعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلقها بعظائم الأمور وجلائل المقاصد، ومن حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والمجد والبهاء، والمتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق ولا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس وجهلتهم، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما، ومن هنا يظهر أن وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم وكرامة نفوسهم[7].

مجلة بيوت المتقين العدد (3)

 


[1] إقبال الأعمال: ج1 ص182.

[2] ميزان الحكمة: ج4 ص 2791.

[3] ميزان الحكمة: ج4 ص 2791.

[4] الكافي: ج 2 ص 37.

[5] الأمثل: 10/419.

[6] النساء:31.

[7] تفسير الميزان 15/9.