الربا في القرآن الكريم

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهَ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهَ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللهَ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ* إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون([1].

سبب النزول:

في الآيات السابقة لهذه الآيات كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع، وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادة للإنفاق، والواقع هو أن هذه الآيات تُكمّل هدف الآيات السابقة، لأن تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبب فقر الأكثرية، والإنفاق سبب طهارة القلوب، والنفوس، واستقرار المجتمع، والربا سبب البخل، والحقد والكراهية، والدنس.

هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا، ولكن يبدو منها أن موضوع الربا قد سبق التطرق إليه، ولكن جاء على شكل نصيحة أخلاقية، قال تعالى: (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهَ)[2] أي: أن قصيري النظر قد يرون أن الثروة تزداد بالربا، ولكنها لا يزداد عند الله تعالى.

ثم بعد الهجرة، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وعلى الرغم من أن سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران، فلا يستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران - وهي التي تحرمّ الربا تحريماً صريحاً - قد نزلت قبل سورة البقرة.

على كل حال، هذه الآية وسائر الآيات التي تخص الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راجَ بشدة في مكة، والمدينة، والجزيرة العربية، حتى غدا عاملاً مهماً من عوامل الحياة الطبقية، وسبباً من أهم أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإن الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من أهم الحروب الاجتماعية التي خاضها الإسلام.

يقول تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ). فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الاحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبط في خطواته.

ولعل المقصود هو: وصف طريقة - سير المرابين الاجتماعي - في الدنيا على اعتبار أنهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الاجتماعي السليم، بل أنهم لا يشخصون حتى منافعهم الخاصة، وأن مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها، لا مفهوم لها في عقولهم، إذ أن عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنها تعميهم عن إدراك ما ستؤدي إليه أعمالهم الجشعة الاستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة، وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرّض أساس الملكية للخطر، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والاستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنه يجني على نفسه أيضاً بعمله الجنوني هذا.

ولكن بما أن وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم، فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين أي: أن الذين يقومون في الدنيا قياماً غير معتقل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

الطريف أن الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان»[3].

وفي رواية أخرى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمهم غير مصالحهم الخاصة، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال: «لما أسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس»[4] الحديث الأول يبين اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما أن الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالاً عليهم.

وهناك سؤال يطرح نفسه وهو: هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان، مع أننا نعلم أن الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب؟

والجواب: يرى بعضهم أن تعبير (مس الشيطان) كناية عن الأمراض النفسية والجنون، وهو تعبير كان شائعاً عند العرب، ولا يعني أن للشيطان تأثيراً فعلياً في روح الإنسان.

ولكن مع ذلك لا يستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون ترو أثر يؤدي إلى نوع من الجنون الشيطاني، أي يكون للشيطان على أثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبب اختلال تعادله النفسي.

ثم إن الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكررت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد الإنسان قدرته على تمييز السقيم من السليم والصالح من الطالح، والتفكير المنطقي من المعوج[5].

منطق المرابين:

وصل بنا الكلام إلى هذه الآية والتي تتكلم عن منطق المرابين حيث تقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا). هذه الآية تبين منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أن كليهما يمثلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.

يقول القرآن جواباً على ذلك: (وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا). ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلاً، ربما لوضوح الاختلاف:

فأولاً: في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرة يربح هذا ويخسر ذاك، ومرة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمل المرابي أية خسارة، فكل الخسائر المحتملة يتحمل ثقلها الطرف الآخر، ولذلك نرى المؤسسات الربوية تتوسع يوماً فيوماً، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة.

وثانياً: في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في (الإنتاج والاستهلاك)، بينما المرابي لا يخطو أية خطوة إيجابية في هذا المجال.

وثالثاً: بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الاقتصاد الذي هو أساس المجتمع، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم.

ورابعاً: الربا يتسبب في المخاصمات والمنازعات الطبقية، بينما التجارة السليمة لا تجر المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.

(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله). تقول الآية إن من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل (أي: أن القانون ليس رجعيا) لأن القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإن القوانين تنفذ عادة من تاريخ سنها.

وهذا لا يعني بالطبع أن للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

ثم يقول: (وَأَمْرُهُ إِلَى الله). أي: أن النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله، وإن كان ظاهر الآية يدل على أن مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجه إلى الآية السابقة نفهم أن القصد هو العفو. ويظهر من هذا أن إثم الربا من الكبر بحيث إن حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.

(وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). أي: أن من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كل تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً.

إن العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله، لكن الآية تعد المصرين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقون الخلود في النار.

كما يمكن القول إن خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبدي الدائم.

ثم أن الآية التالية تبين الفرق بين الربا والصدقة وتقول: (يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).

ثم يضيف سبحانه وتعالى: (وَالله لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

(المحق) النقصان التدريجي، و(الربا) هو النمو التدريجي، فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة، وقد يؤدي عمله هذا إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث يصبحون بالتدريج متعطشين إلى شرب دماء المرابين ويهددون أموالهم وأرواحهم. فالقرآن يقول إن الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء، وإن هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضاً.

وبالمقابل فالأشخاص الذين يتقدمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلاً عن عدم تعرضها لأي خطر تنمو بالتعاون العام نمواً طبيعياً. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).

وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع، فالمجتمع الذي يعني بالحاجات العامة تتحرك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيز الوجود ذلك النظام الاقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامة.

(وَالله لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). (الكفار)من الكفور، بوزن فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و(الأثيم) هو الموغل في ارتكاب الآثام.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أن المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النعم، بل أكثر من ذلك يسخرون هذه النعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أن الله لا يحب أمثال هؤلاء.

(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أناس من المؤمنين تركوا حب الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الاختلاف الطبقي المؤدي إلى الكثير من الجرائم، وهؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

ثم إن هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهددهم الخطر الذي يتوجه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.

وأخيرا فإنهم يعيشون في اطمئنان تام ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

مجلة بيوت المتقين العدد (92 ـ 93)

 


[1] سورة البقرة: آية 275 ـ 277.

[2] سورة الروم: آية 39.

[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج100، ص120.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج100، ص116.

[5] التفسير الأمثل، الشيخ مكارم الشيرازي: ج2، ص331. بتصرف.