قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ)[1].
سبب النزول:
قال بعض المفسرين: إن الآية نزلت عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت على قلوبهم، وتعدهم بالنصر.
وقيل: إن عبد الله بن أُبيّ قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى تتعرضون للقتل ولو كان محمد نبيا لما واجهتم الأسر والتقتيل، فنزلت الآية[2].
الصعاب والمشاقّ سُنَّة إلهية:
يبدو من الآية الكريمة أن جماعة من المسلمين كانت ترى أن إظهار الإيمان بالله وحده كاف لدخولهم الجنة، ولذلك لم يوطّنوا أنفسهم على تحمّل الصعاب والمشاق، ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم ودفع شر الأعداء عنهم.
الآية تردّ على هذا الفهم الخاطئ وتشير إلى سُنّة إلهية دائمة في الحياة، وهي أن المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاق والتحديات على طريق الإيمان؛ ليكون ذلك اختباراً لصدق إيمانهم، ومثل هذا الاختبار قانون عام سرى على كل الأمم السابقة.
ويتحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل - مثلا - وما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من التسلط الفرعوني، خاصّة حين حوصروا بين البحر وجيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فَقَدَ فيها بعضُهم نفسَه، لكن لطف الله شملهم في تلك اللحظات ونصرهم على أعدائهم.
وهذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عام لكل الذين خلوا من قبلكم، وهو سُنَّةٌ إلهية تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة وتربيتها، فكل الأمم ينبغي أن تمرَّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن؛ ليتحوّل إلى فولاذ أكثر مقاومة وأصلب عودا، ثم ليتبين من خلال هذا الاختبار من هو اللائق، وليسقط غير اللائق ويخرج من الساحة الاجتماعية.
المسألة الأخرى التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أن الجماعة المؤمنة وعلى رأسها النبي (صلى الله عليه وآله) ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول متى نصر الله؟!، وواضح أن هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب والدعاء.
فتقول الآية: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ....)
وبما أنهم كانوا في غاية الاستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكل وتفويض الأمر إلى اللطف الإلهي، فلذلك تعقب الآية (أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ).
(بأساء) من مادة (بأس) وكما يقول صاحب معجم مقاييس اللغة أنها في الأصل تعني الشدة وأمثالها، وتطلق على كل نوع من العذاب والمشقة، ويطلق على الأشخاص الشجعان الذين يخوضون الحرب بضراوة وشدة (بأيس) أو (ذو البأس).
وكلمة (ضراء) كما يقول الراغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسراء، وهي ما يسر الإنسان ويجلب له النفع، فعلى هذا الأساس تعني كلمة ضراء كل ضرر يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس وأمثال ذلك.
جملة (مَتَى نَصْرُ الله) قيلت من قبل النبي والمؤمنين حينما كانوا في منتهى الشدّة والمحنة، وواضح أن هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب والدعاء، ولذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.
وما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (مَتَى نَصْرُ الله) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، وجملة (أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ) قيلت من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيد جدا.
وعلى أية حال، فإن الآية أعلاه تحكي أحد السنن الإلهية في الأقوام البشرية جميعا، وتُنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنهم ينبغي عليهم لنيل النصر والتوفيق والمواهب الأخروية أن يتقبلوا الصعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات في هذا السبيل، وفي الحقيقة أن هذه المشاكل والصعوبات ما هي إلا امتحان وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.
وعبارة (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) تقول للمسلمين: أنكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أن الأقوام السالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد والمصائب إلى درجة أنهم مستهم البأساء والضراء حتى استغاثوا منها.
وأساسا فإن رمز التكامل للبشرية أن يحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة البلاء والشدائد حتى يكونوا كالفولاذ الخالص وتتفتح قابلياتهم الداخلية وملكاتهم النفسانية ويشتدّ إيمانهم بالله تعالى، ويتميّز كذلك المؤمنون والصابرون عن الأشخاص الانتهازيين، ونختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف: يقول
(الخباب ابن الأرت) الذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشّط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ثم قال: والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه وكلكم يستعجلون)[3]. [4]
مجلة بيوت المتقين العدد (65)