قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[1].
تعد هذه الآية الكريمة عند الأشاعرة من أظهر الأدلّة على إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة، وهي عقيدة فاسدة ورأي منحرف، ومخالف للقرآن والعقل، ولا نعرف كيف تمكنت هذه الشبهة الخطرة من عقول أجيال من علماء الأشاعرة، وتغلغلت إلى نفوسهم إلى حد الجزم والاعتقاد، إذ أنها مخالفة لصريح القرآن الكريم، قال جل شأنه: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[2].
ردَّ المعتزلة على الأشاعرة هذه العقيدة وقالوا: إن النظر في قوله تعالى: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) بمعنى الانتظار لا الرؤية.
ونحن نقول: إنّ النظر في الآية الكريمة لا يدلّ على الرؤية، بقرينة المقابلة، ويتضح الأمر جليّاً عند تأمل الآيتين بعدها: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ*ووُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ*تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).
هذه هي الآيات الأربع في سورة القيامة، وبالمقابلة يمكن أن يتيسّر لنا فهم الآية ورفع إبهامها، وليس تفسير الآية بآية أُخرى تأويلاً، وإنّما هو تدبّرٌ في القرآن، ونحن مأمورون بذلك، وتنظيم الآيات حسب المقابلة يكون بالشكل التالي:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ) يقابلها قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ).
(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) يقابلها قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).
وبما أنّ قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) واضح المعنى، وهو أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها، يكون المراد من عِدله وقرينه عكسه وضدّه، وليس هو إلّا أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته ومتوقعة فضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته، وإلاّ لخرج المتقابلان عن التقابل في المعنى.
وزيادة في التوضيح نقول: يجب أن يكون المتقابلان ـ بحكم التقابل ـ مُتّحدِي المعنى والمفهوم، ولا يكونان مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأوّل ـ أعني: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) تقرير الرؤية وإثباتها-لكان المقابل عدم الرؤية ونفيها، وبما أنّ تلك الجملة ـ المقابلة ـ لا تحمل ذلك المعنى، أعني: الحرمان من الرؤية، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من المقابل الأوّل، وهو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.
ثمّ إنّ في الآية دليلاً واضحاً على أنّ المراد من النظر غير الرؤية؛ وذلك لأنّه إذا أُريدت الرؤية نُسِب النظر إلى العيون لا إلى الوجوه، فالمسند إليه في الآيتين هو الوجوه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ)، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ)، وهذا يدلّ على أنّ النظر حتى بمعنى الرؤية كناية عن الانتظار لرحمة الله سبحانه، وهو دليل على أنّه كُنّي بالنظر إلى الله عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه، وله نظائر في الكتاب العزيز، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[3].
والمراد من قوله: (ولاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) هو المعنى المكنّي عنه، أي: عدم شمول رحمته لهم.
إلى هنا اتضح مفهوم الآية وما هو معناها الواضح، وأنّ ما ذكرناه هو مدلولها لكن بشرط التدبّر، ولا صلة له بالتأويل الباطل الذي ورد في النص النبوي: (مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[4]
مجلة اليقين العدد (34)