شجاعتها (عليها السلام)

ولم يُشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أَشجع ولا أَربط جأشاً ولا أَقوى جناناً من الأُسرة النبوية الكريمة، فالإِمام أَمير المؤمنين(عليه السلام) عميد العترة الطاهرة كان من أَشجع خلق الله، وهو القائل: (والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها)[1]، وقد خاض أَعنف المعارك وأَشدّها قسوة، فجندل الأَبطال، وأَلحق بجيوش الشرك أَفدح الخسائر، وقد قام الإِسلام عبل الذراع، مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإِسلام الكبرى، وكان ولده أَبو الأَحرار الإِمام الحسين(عليه السلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته، فقد حيّر الأَلباب، وأَذهل العقول بشجاعته وصلابته، وقوة بأسه، فقد وقف يوم العاشر من المحرم موقفاً لم يقفه أَي أَحدٍ من أَبطال العالم، فإِنه لم ينهار أَمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً، فإِنه بعدما صُرعَ أَصحابهُ وأَهلُ بيته زَحَفَ عليه الجيش بأَسره، وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً فحمل عليهم وحده وقد طارت أَفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أَمامه كالمعزى إِذا شدّ عليها الذئب -على حدِّ تعبير بعض الرواة- وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كل جانب، لم يوهن له ركن، ولم تضعف له عزيمة.

ولما سقط (سلام الله عليه) على الأَرض جريحاً قد أَعياه نزف الدماء تحامى الجيش الأُموي من الإِجهاز عليه خوفاً ورعباً منه.

وتمثلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وأَلوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيّدة زَيْنَب (سلام الله عليها)، فعندما ادخل اسارى آل الرسول إِلى مجلس ابن زياد، ومثلوا أَمام سليل الأَدعياء ابن مرجانة، العتل الزنيم ابن المرأة الفاجرة، وأَبيهِ زياد الذي لم يعرف له أَبٌ، فاندفع الأَثيم يظهر الشماتة بلسانه الأَلكن قائلاً: (الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وأَكذّب أُحدوثتكم).

فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِمُحَمد (صلى الله عليه وآله)، وَطَهَّرَنَا تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنا، وَهُوَ غَيرنَا)[2].

لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أَمض من السلاح، وهي والمخدرات من آل محمّد في قيد الأَسر، وقد رفعت فوق رؤوسهن رؤوس حماتهن، وشهرت عليهن سيوف الملحدين.

لقد أَنزلت العقيلة -بهذه الكلمات- الطاغية من عرشه إِلى قبره، وعرّفته أَمام خدمه وعبيده أَنّه المفتضح والمنهزم، وأَنّ أَخاها هو المنتصر، ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله وهو في نشوة نصره الزائف سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟[3].

وانطلقت عقيلة بن هاشم بكل صلابة ورباط جأش وصمود، فأَجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأَخيها قائلة: (ما رَأَيْتُ إِلاّ جَميلاً، هؤُلاءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، هَبَلَتْكَ اُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ)[4].

أَرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أَرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجلت حفيدة الرسول(صلى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزاً للمسلمين ومجداً خالداً للأُسرة النبوية.

فغضب ابن زياد وقال له عمرو بن حريث إِنها امرأة ولا تؤاخذ بشيء من منطقها، فقال ابن زياد لقد شفاني الله من طغاتك والعصاة المردة من أَهل بيتك، فبكت، ثم قالت(عليها السلام): (لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أَصلي، فإِن تشفيت بهذا فقد اشتفيت)، فقال عبيد الله: هذه سجّاعة، ولعمري كان أَبوك شاعراً سجّاعاً، قالت(عليها السلام): (إِن لي عن السجاعة لشغلاً، وإِني لأَعجب ممن يشتفي بقتل أَئمتهِ، ويعلم أَنهم منتقمون منه في آخرته)[5]، إِنها رباطة جأش، وصبر وعلم وحكمة.

وهكذا يتجلّى لنا موقفٌ شجاعٌ آخر لعقيلة الطالبيين(عليها السلام)، وذلك عندما طلب أَحد الأُمراء من يزيد الطاغية أَن يهب له فاطمة بنت علي (عليه السلام) وكانت وضيئة، قائلاً: يا يزيد هب لي هذه الجارية، فتعلقت بأُختها زَيْنَب(عليها السلام)، فدافعت زَيْنَب(عليها السلام) عنها، وتوجهت إِلى ذلك الشامي وقالت(عليها السلام): (كذبتَ واللهِ ولعنتَ، ما ذاكَ لكَ، ولا لهُ)، فغضب يزيد وقال: بل كذبتِ، واللهِ لو شئتُ لفعلته.

قالت(عليها السلام): (لا والله ما جعل الله ذلكَ لكَ إِلا أَن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا)، فغضب يزيد ثم قال: إِياي تستقبلين بهذا ؟ إِنما خرج من الدين أَبوكِ وأَخوكِ.

فقالت(عليها السلام): (بدين الله ودين أَبي وأَخي وجدي اهتديت أَنْت وجدكَ وأَبوكَ).

قال (يزيد): كذبتِ يا عدوّةَ الله، قالت: (أَمير يشتم ظالماً، ويقهر بسلطانه)، فكأنه -لعنه الله- استحى، فسكت، فأَعاد الشامي -لعنه الله- فقال: يا أَمير المؤمنين هب لي هذه الجارية، فقال له: اعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً[6].

 


[1]  نهج البلاغة: ج3، ص73.

[2]  مثير الأحزان، ابن بما الحلي: ص71.

[3]  مثير الأحزان، ابن بما الحلي: ص71.

[4]  المصدر السابق: ص71.

[5]  المصدر السابق: ص71.

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج45، ص156.