فإنا صنائع ربنا

نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب إلى معاوية في بعض المراسلات: (أنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبيلِ اللهِ تَعَالى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ، وَلِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى ‌إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً ‌عند صَلاَتِهِ عَلَيْهِ! أَوَ لاَ تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ وَلِكُلٍّ فَضْلٌ ـ حَتَّى إِذَا ‌فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: ( الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَذُو الْجَنَاحَيْنِ) وَلَوْلاَ مَا نَهَى اللهُ ‌عنه مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً، تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ تَمُجُّهَا ‌آذَانُ السَّامِعِينَ. فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا (في هذه الرسالة يذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) حقيقة مهمة تخص فضل أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الناس، وهي أن شهيدهم يسمى سيد الشهداء، ومن قطعت يديه منهم سمي الطيار ذو الجناحين، مع أن من استشهد وقطعت يداه كثير في التأريخ الإسلامي.

كأنه (عليه السلام) يعلل ذلك ويقول: (فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا) فماذا يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه الحقيقة؟

ذكر العلّامة المجلسي في بيان هذه العبارة أن قوله عليه السلام (فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا) قال: (هذا كلام مشتمل على أسرار عجيبة من غرائب شأنهم التي تعجز عنها العقول ولنتكلم على ما يمكننا إظهاره والخوض فيه فنقول: صنيعة الملك من يصطنعه ويرفع قدره ومنه قوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)[1]، أي اخترتك وأخذتك صنيعتي لتنصرف عن إرادتي ومحبتي فالمعنى أنه ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى أنعم علينا فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه. ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس نصطنعه ونرفع قدره)[2].

 ونقل كلاماً لابن أبي الحديد المعتزلي أنه قال: (هذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله والناس عبيدهم)[3] .

 وقال أيضاً: قال ابن ميثم: (لفظ الصنائع في الموضعين مجاز من قبيل إطلاق اسم المقبول على القابل والحال على المحل يقال: فلان صنيعة فلان إذا اختصه لموضع نعمته، والنعمة الجزيلة التي اختصهم الله بها هي نعمة الرسالة وما يستلزمه من الشرف والفضل حتى كأن الناس عيالاتهم فيها)[4].

وقد جاءت هذه الحقيقة عن الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في كتاب له إلى الشيعة قال (عليه السلام): (بسم الله الرحمن الرحيم، عافانا الله وإياكم من الفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلب. إنّه اُنهي إليّ ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشكّ والحيرة في ولاة أمرهم، فغمّنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لافينا، لأنّ الله معنا، فلا فاقة بنا إلى غيره، والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا، ونحن صنائع ربّنا، والخلق بعد صنائعنا)[5].   

المراد من الرواية الشريفة إجمالاَ: أنّ المعصومين (عليهم السلام) قد أنعم الله تعالى عليهم نعمة الوجود من غير واسطة بينه وبينهم، فهم (عليهم السلام) صنائع الله تعالى، بينما قد أنعم (جلّ جلاله) نعمة الوجود على سائر خلقه بواسطة الأئمّة (عليهم السلام) فالخلق صنائع لهم، وأيضاً يشمل هذا المعنى كل نعمة أسبغها الله تعالى على العباد.

مجلة ولاء الشباب العدد (48)

 


[1] طه: 41.

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 33، ص68.

[3] نفس المصدر.

[4] نفس المصدر.

[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج53، ص178.