عقيدتنا في الرجعة

إنّ الذي تذهب إليه الامامية - أخذاً بما جاء عن آل البيت عليهم‌السلام- أنّ الله تعالى يعيد قوماً من الاَموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقاً ويذلّ فريقاً آخر، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام[1].

ولا يرجع إلاّ من علت درجته في الايمان، أو مَن بلغ الغاية من الفساد، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنّي هؤلاء المرتَجَعينَ - الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله - أن يخرجوا ثالثاً لعلّهم يصلحون: (قَالوا رَبَّنا أَمتَّنا اثَنَتينِ وَأحيَيتَنَا اثنَتَيِن فَاعتَرَفنَا بِذُنُوبِنَا فَهَل إلى خُرُوجٍ مِن سَبيلٍ)[2].

نعم، قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتظافرت بها الاَخبار عن بيت العصمة، والاِمامية بأجمعها عليه إلاّ قليلون منهم تأوَّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الامام المنتظر، من دون رجوع أعيان الاَشخاص وإحياء الموتى[3].

والقول بالرجعة يعد عند أهل السنَّة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، وكان المؤلِّفون منهم في رجال الحديث يعدّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها، ويبدو أنّهم يعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تُنبز به الشيعة الامامية، ويشنَّع به عليهم.

ولا شكّ في أنّ هذا من نوع التهويلات التي تتّخذها الطوائف الاسلامية - فيما غبر - ذريعة لطعن بعضها في بعض، والدعاية ضده. ولا نرى في الواقع ما يبرّر هذا التهويل؛ لاَنّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد، ولا في عقيدة النبوّة، بل يؤكد صحّةالعقيدتين؛ إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشر، وهي من الاَُمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبينا محمد وآل بيته صلى الله عليه وعليهم، وهي عيناً معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح عليه‌السلام، بل أبلغ هنا؛ لاَنها بعد أن يصبح الاَموات رميماً (قَالَ مَنْ يُحيي العِظمَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُل يُحييهَا الَّذِي أَنشأَهَا أَوَّلَ مَرةٍ وَهُو بِكُلِّ خَلقٍ عَليِمٌ)[4].

وأمّا من طعن في الرجعة باعتبار أنّها من التناسخ الباطل، فلاَنّه لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني؛ فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الاَول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني؛ فإنّ معناه رجوع نفس البدن الاَول بمشخّصاته النفسية، فكذلك الرجعة.

وإذا كانت الرجعة تناسخاً فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام كان تناسخاً، وإذا كانت الرجعة تناسخاً كان البعث والمعاد الجسماني تناسخاً.

إِذن، لم يبق إلاّ أن يُناقش في الرجعة من جهتين:

الاَولى: أنّه مستحيلة الوقوع.

الثانية: كذب الاَحاديث الواردة فيها.

وعلى تقدير صحة المناقشتين، فانّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوَّلها خصوم الشيعة.

وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الاَمور المستحيلة، أو التي لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنّها لم توجب تكفيراً وخروجاً عن الاسلام، ولذلك أمثلة كثيرة، منها: الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه[5]، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن[6]، ومنها: القول بالوعيد[7]، ومنها: الاعتقاد بأنّ النبي لم ينص على خليفة من بعده.

على أنّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحّة؛ أمّا أنّ الرجعة مستحيلة فقد قلنا إنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني، غير أنّها بعث موقوت في الدنيا، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها، ولا سبب لاستغرابها إِلا أنّها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقرِّبها إلى اعترافنا أو يبعدها، وخيال الانسان لا يسهل عليه أن يتقبَّل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول (مَن يُحييِ العظمَ وَهِيَّ رَمِيمٌ) فيقال له: (يُحييهَا الّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرةٍ وَهُوَ بِكلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ)[8].

نعم، في مثل ذلك ممّا لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته، أو نتخيّل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الاِلهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الاَموات، كمعجزة عيسى عليه‌السلام في إحياء الموتى (وَأُبرئ الاَكمَهَ وَالاَبَرصَ وأُحيى المَوتَى بإذنِ اللهِ)[9].

وكقوله تعالى (أَنَّى يُحيِي هَذِهِ اللهُ بَعدَ مَوتِها فأَمَاتَهُ اللهُ مائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعثَهُ)[10].

والآية المتقدِّمة (قالُوا رَبَّنا أمتَّنا اثنتَينِ...)[11]؛ فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وإِن تكلَّف بعض المفسِّرين في تأويلها بما لا يروي الغليل، ولا يحقّق معنى الآية[12].

وأمّا المناقشة الثانية - وهي دعوى أنّ الحديث فيها موضوع - فإنّه لا وجه لها؛ لاَنّ الرجعة من الامور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الاَخبار المتواترة.

وبعد هذا، أفلا تعجب من كتاب شهير يدَّعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه «فجر الاسلام» إذ يقول: «فاليهودية ظهرت في التشيّع بالقول بالرجعة»![13] فأنا أقول له على مدّعاه: فاليهودية أيضاً ظهرت في القرآن بالرجعة، كما تقدّم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدّمة.

ونزيده فنقول: والحقيقة أنّه لا بدَّ أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والاَحكام الاسلامية؛ لاَنّ النبي الاَكرم جاء مصدِّقاً لما بين يديه من الشرائع السماوية[14]، وإن نسخ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الاسلامية ليس عيباً في الاسلام، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.

وعلى كلّ حال، فالرجعة ليست من الاَصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنّما اعتقادنا بها كان تبعاً للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت عليهم‌السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الاَمور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها.

 


[1] اُنظر: بحار الاَنوار: 53/39 - 143 باب الرجعة.

[2] الغافر40: 11.

[3] وللمزيد من الاطّلاع والتوضيح راجع كتاب حق اليقين في معرفة اصول الدين/ الجزء الثاني. فقد ذكر فيه الآيات والروايات الدالّة على الرجعة، والآراء فيها، وهل تتم الرجعة لجميع الناس أم لمن محض الايمان محضاً ومن محض الكفر محضاً. وغيره من المصادر والكتب.

[4] يس 36: 78 - 79.

[5] راجع صحيح البخاري: 2/68، صحيح مسلم: 1/399 ح85 و86 و87 و89، سنن الترمذي: 2/235 ح391 - 395، سنن أبي داود: 1/264 ح1008 - 1023.

[6] راجع: شرح المقاصد: 4/143 - 146، وفيه إشارة إلى قول الحنابلة والحشوية بقدم القرآن، بل قول بعضهم بأنّ الجلدة والغلاف أزليّان، وكذا الاشارة إلى مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف التي دامت ستة أشهر وأنتهت بالاتفاق بينهم على القول بأنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.

[7] راجع: شرح المقاصد: 5/125، مذاهب الاسلاميين: 62.

[8] يس 36: 78 - 79.

[9] آل عمران 3: 49.

[10] البقرة 2: 259.

[11] غافر 40: 11.

[12] راجع: مجمع البيان: 4/516. فقد نقل قسماً من هذه التفسيرات التي أوردها بعض المفسرين لهذه الآية.

[13] فجر الاِسلام: ص 33. على أنّ أحمد أمين لم يقتصر في كتابه هذا على مقولته هذه، بل زاد فيها الكثير من الكلام الذي لا أساس له ولا مستند. ولمزيد من الاطّلاع راجع كتاب أصل الشيعة واصولها: ص 140 وفيه ذكر هذه المقالات وبعض من الرد المختصر عليها.

[14] إشارة إلى قوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْريةَ والاَنْجِيلَ) آل عمران 3: 3. وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة الدالة على أنّ النبي الاَكرم (صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم) والقرآن جاءا مصدقان لمن سبق من الاَنبياء وشرائعهم الحقّة، سوى ما ورد من الاحكام الناسخة التي كان يتدين بها أتباعهم قبل نزول الشريعة السمحة السهلة.