الإخلاص

قال تعالى: (...فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)[1].

 تشير هذه الجمل من الآية الكريمة إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً).

 بالرغم من أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إلا أنّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإن القرآن استخدم هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

من جانب آخر، فإنّ الإنسان الذي ينتظر أمراً معيناً، ويأمل شيئاً ما، فمن الطبيعي أن يهيئ نفسه ويعدّها لاستقبال ذلك الأمر، أما الشخص الذي يدعّي ولا يستعد، وينتظر ولا يعمل، فهو في الواقع مدّع كاذب لا غير.

 لهذا السبب فإن الآية أعلاه تقول: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) وقد وردت بصيغة الأمر، الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.

وفي آخر جملة ثمة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

بعبارة أخرى: لا يكون العمل صالحا ما لم تتجل فيه حقيقة الإخلاص، فالهدف الإلهي يعطي لعمل الإنسان عمقا ونورانية خاصة، ويوجهه الوجهة الصحيحة، وعندما نفقد الإخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إلى المنافع الخاصة، ويفقد عمقه وأصالته ووجهته الصحيحة.

في الحقيقة إن العمل الصالح الذي ينبع من أهداف إلهية، ويمتزج بالإخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازا للقاء الله تبارك وتعالى.

وينبغي الإشارة إلى أن العمل الصالح له مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبناء فردي واجتماعي، وفي أي قضية من قضايا الحياة[2].

(الإخلاص أو روح العمل الصالح)

أعطت الروايات الإسلامية مكانة خاصة لقضية (النية)، والإسلام في العادة يقرّ بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف من العمل، والحديث المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله): (لا عمل إلا بنية) بيان واضح لهذه الحقيقة.

وبعد (النية) هناك (الإخلاص)، فلو اقترن العمل بالإخلاص فسيكون عملا ثمينا للغاية، وبدون الإخلاص هو لا قيمة له.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قَالَ: لَيْسَ يَعْنِي أَكْثَرَ عَمَلاً ولَكِنْ أَصْوَبَكُمْ عَمَلاً وإِنَّمَا الإِصَابَةُ خَشْيَةُ الله والنِّيَّةُ الصَّادِقَةُ والْحَسَنَةُ ثُمَّ قَالَ الإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى يَخْلُصَ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ والْعَمَلُ الْخَالِصُ: الَّذِي لَا تُرِيدُ أَنْ يَحْمَدَكَ عَلَيْه أَحَدٌ إِلَّا الله عَزَّ وجَلَّ، والنِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ أَلَا وإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْعَمَلُ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه عَزَّ وجَلَّ: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه) يَعْنِي عَلَى نِيَّتِه)[3].

فالإخلاص في العمل هو تطهيره عن ملاحظة غير وجه الله تعالى ورضاه من الرياء والسمعة وحب الجاه وأمثال ذلك فان ذلك شرك خفي قلّ من نجا منه لخفاء طرقه، ولذلك قال(صلى الله عليه وآله): (دبيب الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء) وهو من أعظم الموانع عن الوصول إلى الحق والقرب منه قال الله تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وإذا ارتفع ذلك سهل الوصول إليه سبحانه، كما يرشد إليه ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر(عليه السلام)قَالَ: (مَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ الإِيمَانَ بِالله عَزَّ وجَلَّ أَرْبَعِينَ يَوْماً أَوْ قَالَ مَا أَجْمَلَ عَبْدٌ ذِكْرَ الله عَزَّ وجَلَّ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَّا زَهَّدَه الله عَزَّ وجَلَّ فِي الدُّنْيَا وبَصَّرَه دَاءَهَا ودَوَاءَهَا فَأَثْبَتَ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِه وأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَه)[4]، فالعمل الخالص يعتبر مهما في الإسلام.

 ويمكن أن نسمي الإخلاص

ب‍ (توحيد النية) يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأمور والحالات، فالإخلاص هو أن تكون الدوافع الإنسانية خالية من أي نوع من أنواع الشوائب، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَانَ يَقُولُ: (طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ للهِ الْعِبَادَةَ والدُّعَاءَ ولَمْ يَشْغَلْ قَلْبَه بِمَا تَرَى عَيْنَاه ولَمْ يَنْسَ ذِكْرَ الله بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاه ولَمْ يَحْزُنْ صَدْرَه بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُه)[5].

والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية من أن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه فيسرّني ذلك، وأعجب به. فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يقل شيئا، فنزلت الآية: ... فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)[6].

إن المقصود من هذه الرواية ليس الفرح أو السرور اللاإرادي، بل هي الحالة التي يكون فيها الفرح والسرور هدفا لعمل الإنسان، أو الحالة التي تؤدي إلى عدم خلوص النية.

طريق تحصيل النية الخالصة

 إنّ بلوغ مقام الإخلاص والتخلص من الشرك الخفي أمر غير يسير ولا سهل، ويفتقر إلى الدقة والتأمل اللازمين، ونحن سنسعى فيما يأتي للتعرف على الطرق المساعدة على ذلك:

1 ـ اليقين بالمبدأ والمعاد:

جميعنا يؤمن بالله ويوم القيامة، كما نعلم أن جميع إمكانياتنا الدنيوية هي فيض منه تعالى، وأن كل القوى غيره إنما تمثل انعكاساً ضعيفاً جداً لقدرته وقوته، وأنها خاضعة لإرادته ومشيّته. لكنا لا نعتقد بهذه الأمور عن علم ويقين، فلذا نعقد آمالنا على غير الله، ونعتمد عليه ونشركه في عملنا، وهذه الحقيقة قد أشير إليها في كلمات ائمة الدين، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (سبب الإخلاص اليقين)[7]. وفي حديث آخر قال (عليه السلام): (على قدر قوة الدين يكون خلوص النية)[8].

فلكي نفهم وندرك الإخلاص لابد أن نزيد في معرفتنا واعتقادنا العملي بالله ويوم الجزاء، ونسعى قبل طلب الإخلاص إلى الاقتراب من مقام اليقين.

2 ـ اليأس من الناس:

 على الإنسان أن يقطع أمله عن جميع الناس العاجزين البخلاء، ليكون يأسه هذا خطوة أولى نحو الارتباط الوثيق بالله سبحانه، وإخلاص العمل له، فعن المعصوم (عليه السلام) قال: (أوّل الإخلاص اليأس مما في أيدي الناس)[9].

3 ـ تجنّب تنمية الاهواء واتباعها:

إن ما يدفع الإنسان إلى التملق والتزلف والتسكع على أبواب الخلائق ليس إلاّ الآمال والأهواء، والشهوات، وحب الدنيا، والتعلق بزخارفها، فلو حُدّ الأمل، وقُمع الهوى، وذُلّل حبّ الدنيا لما تعلق الإنسان بالغير، إذ كيف ستسمح له حريته أن يعلّق آماله على غير الله، ويشوب عبادته ـ وهي أفضل الأعمال الإنسانية ـ بإشراك من ليس بخليق بهذا الأمر.

4 ـ استخدام العقل:

إن العاقل الملتفت إلى ضعف الناس، ودرجة تأثيرهم في مساعدة أفراد المجتمع إذا قارن بين ذلك وبين القدرة والمحبة والكرامة الإلهية، لن يكون مستعداً أبداً لأن يبيع عمله على الآخرين، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (ما بين الحق والباطل إلاّ قلة العقل. قيل: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: إن العبد يعمل العمل الذي هو لله رضىً، فيريد به غير الله، فلو أنه أخلص لله لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك)[10].

 دعاء الختام:

إلهي، اجعل نياتنا خالصة في جميع أعمالنا بحيث لا نفكر بأحد سواك، ولا نعدوك إلى غيرك... واجعل ما نريده وما لا نريده تبعا لطاعتك ورضاك... آمين يا رب العالمين.

مجلة بيوت المتقين العدد (31)

 


[1] الكهف: 110.

[2] الأمثل: ج9، ص 394-396.

[3] الكافي: ج2، ص16، ح4.

[4] الكافي: ج2، ص16، ح6.

[5] الكافي: ج2، ص16، ح3.

[6] عدة الداعي: ص209.

[7] غرر الحكم: 5538.

[8] غرر الحكم: 6192.

[9] غرر الحكم: 6192.

[10] بحار الأنوار ج72، ص299.