عقيدتنا في التقية

روي عن صادق آل البيت عليه‌السلام في الاَثر الصحيح:

«التقيّة ديني ودين آبائي»[1]، و«من لا تقيّة له لا دين له»[2].

وكذلك هي، لقد كانت شعاراً لآل البيت عليهم‌السلام؛ دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم[3].

وما زالت سمة تُعرف بها الاِمامية دون غيرها من الطوائف والاُمم، وكلّ انسان إذا أحسَّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أوالتظاهر به لا بدَّ أن يتكتَّم ويتّقي في مواضع الخطر، وهذا أمر تقضيه فطرة العقول.

ومن المعلوم أنّ الامامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أيّة طائفة أو أُمَّة أُخرى[4] فاضطرّوا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقيّة بمكاتمة المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم؛ لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا. ولهذا السببُ امتازوا بالتقية وعُرفوا بها دون سواهم.

وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في ابوابها في كتب العلماء الفقهية.

وليست هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الاَحوال، كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للاسلام، وجهاد في سبيله؛ فإنّه عند ذلك يستهان بالاَموال، ولا تعزّ النفوس.

وقد تحرم التقيّة في الاَعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة[5]، أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم، أو إفشاء الظلم والجور فيهم.

وعلى كلّ حال، ليس معنى التقيّة عند الامامية أنّها تجعل منهم جمعية سرّية لغاية الهدم والتخريب، كما يريد أن يصورها بعض أعدائهم غير المتورّعين في إدراك الاُمور على وجهها، ولا يكلِّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا[6].

كما أنّه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سرّاً من الاَسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الامامية ومؤلَّفاتهم فيما يخص الفقه والاَحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملاَت الخافقين، وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أيّة أُمَّة تدين بدينها؟!

بلى، إنّ عقيدتنا في التقيّة قد استغلّها من أراد التشنيع على الامامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنّهم كان لا يشفى غليلهم إلاّ أن تقدَّم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الاَمويين والعباسيين، بله العثمانيين.

وإذا كان طعن من اراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية، فإنّا نقول له:

أولاً: إنّنا متبعون لاَئمتنا عليهم‌السلام ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها، وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين، وقد سمعت قول الصادق عليه‌السلام: «من لا تقيّة له لا دين له».

وثانياً: قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم، ذلك قوله تعالى: (إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئِنٌ بالاِيمن)[7] وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الاسلام[8].

وقوله تعالى: (إلاَّ أَنْ تَتَّقوُا مِنْهُم تُقةً)[9].

وقوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مؤُمِنٌ مِن ءَالِ فِرعَونَ يَكتُمُ إيمنَهُ)[10].

 


[1] الكافي: 2/174 ح12، مختصر بصائر الدرجات: 101، المحاسن: 1/397 ح890.

[2] الكافي: 2/172 ح2، الفقه المنسوب للامام الرضا عليه‌السلام: 338.

[3] التقية: هي كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا. وهي من الامور التي يشنّع بعض الناس ويزدري على الشيعة بقولهم بها؛ جهلاً منهم بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها، ولو تثبتوا في الاَمر وتريّثوا وصبروا وتبصّروا لعرفوا أنّ التقية لا تختص بالشيعة ولم ينفردوا بها، بل هي من ضروري العقل، وعليه جبلّة الطباع وغرائز البشر رائدها العلم، وقائدها العقل ولا تنفك عنهما قيد شعرة؛ إذ أنّ كل انسان مجبول على الدفاع عن نفسه والمحافظة على حياته.

راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5/137، أصل الشيعة وأصولها: 315، ولمزيد من الاطلاع راجع: واقع التقية عند المذاهب والفرق الاسلامية من غير الشيعة الامامية - للسيد ثامر العميدي، وفيه إيضاح على أنّ التقية والقول بها لا يختص فقط بالشيعة الامامية.

[4] ولزيادة التوضيح والتعرف على ما أصاب الشيعة على مرّ العصور راجع كتاب: الشيعة والحاكمون. للشيخ محمد جواد مغنية، ففيه من الايضاح ما يمكن أن يصوّر الوضع المأساوي الذي عاشته الشيعة في فترات تأريخهم العصيبة.

[5] حيث ورد عن الامام الباقر عليه‌السلام الحديث التالي: عن محمد بن مسلم، عنه عليه‌السلام: «إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية». وسائل الشيعة: 11/483 ح1.

[6] راجع الكوثري في تعليقه على كتاب الاسفراييني «التبصير في الدين»، فانه يذكر بأن الذين اتّخذوا التشيع ستاراً لتحقيق أغراضهم في تشويه معالم الاسلام: (اتّخذوا التلفّع بالتشيّع وسيلة لحشد حشود وتأليف جمعيات سرية وجعلوا التشيّع ستاراً لما يريدون أن يبثّوه بين الامة من الرذيلة!!). الاسفراييني: التبصير في الدين: 185 - تعليق الكوثري. وراجع أيضاً: نشأة الاَشعرية وتطورّها: 87 - 88.

[7] النحل 16: 106.

[8] راجع: التبيان في تفسير القرآن: 6/428، مجمع البيان في تفسير القرآن: 3/387، جامع البيان: 14/122، التفسير الكبير: 19/120، الكامل في التاريخ: 2/60.

[9] آل عمران 3: 28.

[10] غافر40: 28.