قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[1].
دعوة مؤكدة إلى العدالة:
إن الآية أعلاه تدعو إلى تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)[2].
فتخاطب هذه الآية أولاً المؤمنين قائلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ).
وينبغي الانتباه إلى أن كلمة (قوّامين) هي جمع لكلمة (قوّام) وهي صيغة مبالغة من (قائم) وتعني (كثير القيام) أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءا من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم وروحهم.
والإتيان بكلمة (القيام) هنا إمّا كناية عن العزم والإرادة الراسخة في تطبيق العدالة، وإما إشارة الى ضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.
ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة (الشهادة) فشدّدت على ضرورة القيام لله والشهادة بالحق والعدل، وتجنب الشهادة بالظلم والجور.
ثم تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة، وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكدة أن الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سببا للاعتداء على حقوق الآخرين، لأن العدالة أرفع وأسمى من كل شيء، فتقول الآية الكريمة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا...)، وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى، تؤكد الآية مرة ثالثة قائلة: (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). والطريف أنّ الآية اختتمت بقوله (خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ولم تختتم بكلمة ((عليم)) لأنّ كلمة ((خبير)) تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعا على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إظهار الباطل حقا، ويجازي على هذا العمل.
وتُثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الاهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية الإنسانية الاجتماعية الحساسة، ومما يؤسف له كثيرا أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي، وإن هذا هو سرّ تخلف المسلمين[3].
و هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء، تتلاقيان في عامل اتباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها آية سورة النساء في جملة: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا...) لأن الهوى مصدر كل ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية، لا من دافع الحب أو الكراهية، وعلى هذا الأساس فإن المصدر الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس اتباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور، وقد جاء في كلام النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قولهما: (أما اتباع الهوى فيصد عن الحق)[4].
العدل ركن إسلامي مهم:
قلما نجد قضية أعطى الإسلام لها أهمية قصوى كقضية العدل، فهي وقضية التوحيد سيّان في تشعب جذورهما إلى جميع الأصول والفروع الإسلامية، وبعبارة أخرى: كما أن جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقا عن حقيقة التوحيد، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبدا من روح العدل.
وليس من العجيب والحالة هذه أن يكون العدل واحداً من أصول العقيدة والدين، وأساسا من أسس الفكر الإسلامي، وهو مع كونه صفة من صفات الله سبحانه ويدخل ضمن مبادئ المعرفة الإلهية، إلا أنه يشتمل على معان واسعة في خصائصه ومزاياه، ولذلك كان ما أولته البحوث الاجتماعية في الإسلام من الاهتمام بالعدل والاعتماد عليه يفوق ما حظيت به المبادئ الإسلامية الأخرى من ذلك.
ويكفي إيراد عددٍ من الأحاديث والروايات لدرك أهمية هذه الحقيقة:
1 - روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ((إياكم والظلم فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة))[5].
وبديهي أن كل ما هو موجود من خير وبركة ونعم هو من النور وفي النور، وأنّ الظلام هو مصدر كل عدم وفاقة.
2 - وقال النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا: (بِهَذَا (أي: بالعدل) قَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ)[6].
ويعتبر هذا القول من أوضح التعابير التي قيلت في شأن العدل، ومعناه: أنّ حياة البشر المحدودة في الكرة الأرضية ليست وحدها التي يكون قوامها العدل، بل إنّ حياة ووجود الكون بأكمله، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل، وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها، ووجود واستقرار كل شيء في محله منها، بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.
ويؤيد هذا ما قيل: ((الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم)).
لأن للظلم أثراً سريعاً في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والاضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والأزمات الاقتصادية التي تعمّ العالم اليوم، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.
ويجب الانتباه جيدا إلى أن اهتمام الإسلام لم ينصب في مجرد العدالة، بل إنه أولى أهمية أكبر لتحقيق العدالة، وطبيعي أن محض تلاوة هذه الآيات في المجالس أو من على المنابر، وكتابتها في الكتب، لا يجدي نفعا في استعادة العدالة المفقودة، وعلاج التمييز الطبقي والعنصري، والفساد الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، بل إن عظمة هذه الآيات والأحكام تتجلى في يوم تطبّق فيه العدالة في صميم حياة المسلمين[7].
أنواع العدل:
توجد أشكال مختلفة للعدل فهنالك:
عدل الدنيا الذي يشمل حياة البشر، وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وعلاقاتهم بالطبيعة والحياة وهنالك العديد من القواعد والأنظمة التي تحقق العدل عند الالتزام بها.
وعدل الآخرة الذي يتمثل بالثواب والعقاب الذي يناله الإنسان نتيجةً لأفعاله في الحياة الدنيا وهذا هو العدل المطلق الذي يختص به الله سبحانه وتعالى وحده.
ويمكن تقسيم العدل كذلك على اعتبار تعلّقه بالإنسان:
كالعدل الفردي من خلال أن يعدل الفرد بين جسده، وروحه، وعقله، ويعمل الأعمال التي تحقّق له السعادة والخير ويبتعد عن الأعمال التي تزيد من شقائه وتعبه.
والعدل الجماعي الذي يتمثل باحترام الإنسان لأخيه الإنسان وعدم التعدّي على حقوق الآخرين في كافة التعاملات بين البشر.
وبتحقيق العدل سوف يشعر الناس بالطمأنينة والاستقرار، وهذا بالتأكيد سيحفزّهم على العمل والإنتاج بالشكل المتقن والسليم وبالتالي سيزدهر المجتمع ويتقدّم، فمن يشعر بأنّ حقوقه محفوظة سيعمل ويجتهد من أجل الوصول لأهدافه وبالطرق الشرعية والقانونية، ومن يشعر بعكس هذا إما أن يتكاسل ويهمل أو يلجأ للطرق غير القانونية لتحقيق ما يطمح إليه، وعندما تكون الحكومة ظالمة بالتأكيد سيسود الحقد والكره في المجتمع بالإضافة إلى القتل والدمار والتعذيب والاضطهاد، وبالتالي سيكون المجتمع ضعيفاً والدولة أكثر عرضةً للتدخلات الخارجية والخراب، ويجب على الإنسان أن يبدأ بنفسه أولاً حتى يتحقّق العدل في المجتمع كافّة.
مجلة بيوت المتقين العدد (35)