الخير والشر في منظور أهل البيت (عليهم السلام)

1- عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ وعَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: (سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ مِمَّا أَوْحَى الله إِلَى مُوسَى (عليه السلام) وأَنْزَلَ عَلَيْه فِي التَّوْرَاةِ: أَنِّي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ وخَلَقْتُ الْخَيْرَ وأَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْ مَنْ أُحِبُّ فَطُوبَى لِمَنْ أَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْه وأَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ وخَلَقْتُ الشَّرَّ وأَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْ مَنْ أُرِيدُه فَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْه)[1].

الشرح:

عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ مِمَّا أَوْحَى الله إِلَى مُوسَى (عليه السلام) وأَنْزَلَ عَلَيْه فِي التَّوْرَاةِ: أَنِّي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا) إشارة إلى التوحيد في الذات والصفات (خَلَقْتُ الْخَلْقَ) إشارة إلى التوحيد في كونه مبدأً لجميع المخلوقات مع احتمال أن يراد بالخلق: الخلق القابل للخير والشر بقرينة المقام (وخَلَقْتُ الْخَيْرَ وأَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْ مَنْ أُحِبُّ فَطُوبَى لِمَنْ أَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْه) طوبى من الطيب والواو منقلبة عن الياء لانضمام ما قبلها وقيل: هي اسم شجرة في الجنة وعلى التقديرين فهو مبتدأ والمعنى: له طيب العيش أو له الجنة، لأنها تستلزم طيبه (وأَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ وخَلَقْتُ الشَّرَّ وأَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْ مَنْ أُرِيدُه) أي من أريد إجراءه على يديه (فَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُه عَلَى يَدَيْه)، هذا الحديث دل بحسب الظاهر على الجبر كما هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه تعالى هو الخالق الموجد أفعال العباد كلها خيرها وشرها، وبطلانه لما كان معلوماً عندنا بالعقل والنقل وجب التأويل فيه (وما يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم) ولكن لا بأس أن نشير إليه على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال، فنقول: لعل المراد بالخير والشر الجنة والنار وإجراؤهما عبارة عن الإعانة والتوفيق للمتوجه إلى الأول، وعن سلبهما عن المتوجه إلى الثاني. وهذا التأويل قد ذكره بعض شارحي نهج البلاغة حيث قال: وكأني بك تستعلم عن كيفية التوفيق بين ما روي في دعاء التوجه إلى الصلاة « الخير في يديك والشر ليس إليك » وما روي في الدعاء « اللهم أنت خالق الخير والشر » فوجه التوفيق أن المراد بالأول أن الأفعال التي فعلها الله تعالى وأمر بها حسنة كلها وليست القبائح من أفعاله تعالى ولا من أوامره، ومعنى الثاني أنه تعالى خالق الجنة والنار.

أو نقول: المراد بخلق الخير والشر تقديرهما والخلق كما جاء في اللغة بمعنى الإيجاد جاء أيضاً بمعنى التقدير، والله سبحانه هو المقدر لجميع الأشياء والمبين لحدودها ونهاياتها حتى الخير والشر، ومعنى إجرائهما ما عرفت.

وكل ذلك بإرادته سبحانه للأشياء والأفعال وعدم خروج فعل الإنسان عن محيط علمه وإرادته فهذا مما يثبته القرآن الكريم بوضوح، فمن حاول أن يخرج فعل الإنسان من حيطة إرادته فقد خالف البرهان أولا، وخالف نص القرآن ثانيا، إذ كيف يمكن أن يقع في سلطانه ما لا يريد؟ ولذلك يقول سبحانه: إن الإنسان لا يشاء شيئا إلا ما شاء الله، وأن إيمان كل نفس بإذنه ومشيئته، وإن كل فعل خطير وحقير لا يتحقق إلا بإذنه.

يقول سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إلّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ)[2]، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلّا بِإِذْنِ الله)[3]، وقال جل وعلا: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)[4].

وهذه الآيات الناصعة صريحة في عدم خروج فعل الإنسان عن مجاري إرادته سبحانه، وقد أكدت ما نزل به الوحي، الروايات المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وبما أن خروج فعل الإنسان عن حيطة إرادته ومشيئته يستلزم تحديد إرادته، يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في رد تلك المزعمة: (من زعم أن الله تبارك وتعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله الله النار)[5].

وبما أن خروج أفعال الإنسان عن حيطة إرادته يستلزم تحديدا في سلطانه، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد)[6].

وقد ورد في الحديث القدسي قوله: (يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد)[7].

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): (لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر)[8].

ولا يليق لموحد أن يشك في سعة إرادته وتعلقه بكل ما كان وما هو كائن وما يكون إلا أن اللازم هو إمعان النظر في متعلقها، فهل تعلق بأصل صدور الفعل عن الإنسان، أو تعلق بصدوره عنه بقيد الاختيار، والأول لا يفارق الجبر، والثاني نفس الاختيار والعدل، وعند ذلك لا تكون سعة إرادته ذريعة لتوهم الجبر وخلاف العدل.

2- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (مَنْ زَعَمَ أَنَّ الله يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ - فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الله ومَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ والشَّرَّ إِلَيْه فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الله).

الشرح:

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مَنْ زَعَمَ أَنَّ الله يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) كالجبرية القائلين: بأنَّ جميع الفواحش والشرور الدَّاخلية في الوجود من الشرك والظلم والزِّناء والسرقة والقتل وغيرها مرادة لله تعالى وهو يرضى بها ويحبّها ويأمر بها (فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الله) في قوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)[9]، وفي قوله: (وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ)[10]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، ومن اعتقد ما يلزم منه تكذيب القرآن فقد كفر وارتّد وخرج عن دين الإسلام (ومَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ والشَّرَّ إِلَيْه)، أي مستندان إليه وهو فاعلهما (فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الله)، لأنّه تعالى في آيات كثيرة نسب الخير والشرَّ من أعمال العباد إليهم، فمَنْ قال بخلاف ذلك فقد كذب على الله (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى الله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)[11].

مجلة بيوت المتقين العدد (27)

 


[1] الكافي، الشيخ الكليني، ج١، ص١٥٤.

[2] سورة التكوير: آية 29.

[3] سورة يونس: آية 100.

[4] سورة الحشر: آية 5.

[5] التوحيد: ص359.

[6] الكافي: ج1، ص160.

[7] التوحيد: ص340.

[8] الكافي: ج1، ص149.

[9] سورة الأعراف: آية 28.

[10] سورة غافر: آية 31.

[11] سورة الزمر: آية60.