مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام

مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام

مسجد قباء هو أول مسجد أسس على التقوى وأول مسجد بني في الإسلام، قال الله تعالى في سورة التوبة: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[1]. من الملاحظ: أن أول عمل بدأ به (صلى الله عليه وآله) في المدينة هو بناء المسجد. وهو عمل له دلالته وأهميته البالغة، وذلك لأن المسلمين كانوا فئتين: مهاجرين وأنصارا، وتختلف ظروف كل من الفئتين، وأوضاعها النفسية، والمعنوية، والمعيشية، وغير ذلك عن الفئة الأخرى، والمهاجرون أيضا كانوا من قبائل شتّى، ومستويات مختلفة: فكريا، واجتماعيا، ماديا، ومعنويا، كما ويختلفون في طموحاتهم، وتطلعاتهم، وفي مشاعرهم، وفي علاقاتهم، ثم في نظرة الناس إليهم، ومواقفهم منهم، وتعاملهم معهم، إلى غير ذلك من وجوه التباين والاختلاف. وقد ترك الجميع أوطانهم وأصبحوا بلا أموال، وبلا مسكن، إلى غير ذلك مما هو معلوم، وكذلك الأنصار، فإنهم أيضا كانوا فئتين متنافستين، لم تزل الحرب بينهما قائمة على وقدم وساق إلى عهد قريب، وقد أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام ليصبحوا كالجسد الواحد، في توادهم وفي تراحمهم وتعاونهم، وغير ذلك، وأن تتوحد جهودهم وأهدافهم، وحركتهم، ومواقفهم، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى إعداد وتربية نفسية، وخلقية، وفكرية لكل هذه الفئات، لتستطيع أن تتعايش مع بعضها البعض، ولتكون في مستوى المسؤولية، التي يؤهلها لها في عملية بناء للمجتمع المتكافل المتماسك الذي هو نواة الأمة الواحدة التي لها رب واحد وهدف واحد، ومصير واحد. وليصبح هذا المجتمع قادرا على تحمل مسؤولية حماية الرسالة، والدفاع عنها، حينما يفرض عليه أن يواجه تحدي اليهود في المدينة، والعرب والمشركين، بل والعالم بأسره، لابد أن تنصهر كل الطاقات والقدرات الفكرية والمادية وغيرها لهذا المجتمع في سبيل خدمة الهدف الرسالة.

والمسجد هو الذي يمكن فيه تحقيق كل ذلك، إذ لم يكن مجرد محل للعبادة فقط لا غير، بل كان هو الوسيلة الفضلى للتثقيف الفكري، إن لم نقل: إنه لا يزال حتى الآن أفضل وسيلة لوحدة الثقافة والفكر والرأي، حينما يفترض فيها أن تكون من مصدر واحد، وتخدم هدفا واحدا في جميع مراحل الحياة، مع الشعور بالقدسية، والارتباط بالله تعالى.

موقع المسجد:

وقباء موضع بقرب مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) من جهة الجنوب نحو ميلين، وهو بضم القاف يقصر ويمد، ويصرف ولا يصرف[2]، وفيها بني المسجد وأخذ منها اسمه، وله محراب ومنارة، ومنبر رخامي، وفيه بئر تنسب لأبي أيوب الأنصاري، وفيه مُصلّى النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان فيه مبرك الناقة، وأول ما نزل النبي (صلى الله عليه وآله) في قبا حين هاجر من مكّة إلى المدينة وبقي في قبا عشرين ليلة ينتظر قدوم ابن عمّه أمير المؤمنين على بن أبي طالب (عليه السلام) ومدة بقائه (صلى الله عليه وآله) في قبا كان يصلّي قصراً. ويستحب الصَّلاة فيه والدعاء قال تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).[3]

تاريخ إنشاء المسجد:

لما سمع المسلمون في المدينة المنورة بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة المكرمة، كانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة أول النهار، فينتظرونه فما يردهم إلا حر الشمس، ولما وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرية قبا في شهر ربيع الأول نزل في بني عمرو بن عوف بقبا على كلثوم بن الهدم وكان له مربد )قال الأصمعي: المِربَد: كل شيء حرزت فيه الإبل والغنم، ولهذا قيل: مربد النِعَم الذي في المدينة، وبه سمي مربد البصرة[4]، فأخذه منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسس مسجد قبا، وهو أول مسجد أسس على التقوى، وكان (صلى الله عليه وآله) ينقل بنفسه الحجر والصخر والتراب مع صحابته. وفي قبال هذا المسجد قام المنافقون ببناء مسجد آخر، ودعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليصلي فيه، فنزل جبريل (عليه السلام) يحذر النبي (صلى الله عليه وآله) منهم ومن كيدهم، ويقرأ عليه هذه الآيات: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لََمسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى... ). وعبّ القرآن عنه بأنه مسجد ضرار؛ فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بهدمه وإحراقه. ويبدو أن صاحب الفكرة، والمباشر أولا في وضع المسجد هو عمار بن ياسر، ويبدو أيضا أن بعض النساء قد شاركن في بناء مسجد قباء، فعن ابن أبي أوفى لما توفيت امرأته جعل يقول: احملوها وارغبوا في حملها، فإنها كانت تحمل - ومواليها - بالليل حجارة المسجد الذي أسس على التقوى، وكنا نحمل بالنهار حجرين حجرين وقد ورد: أنه (صلى الله عليه وآله) قد أمر أبا بكر بان يركب الناقة، ويسير بها ليخط المسجد على ما تدور عليه، فلم تنبعث به، فأمر عمر بذلك فلم يفعل، فامر عليا، فانبعثت به، ودارت به، فأسس المسجد على حسب ما دارت عليه، وقال (صلى الله عليه وآله): إنها مأمورة[5].

مراحل تجديد بناء المسجد:

اهتم المسلمون بمسجد قباء خلال العصور الماضية فجدده عثمان بن عفان، ثم عمر بن عبد العزيز الذي بالغ في تنميقه وجعل له رحبة وأروقة، ومئذنة وهي أول مئذنة تقام فيه، وفي سنة 435هـ جدده أبو يعلى الحسيني، وفي سنة 555 هـ جدده جمال الدين الأصفهاني.

وفي العصور المتوسطة أيضا تم تجديده مرات متعددة فقد سقطت منارته سنة 877هـ فجددها السلطان قايتباي سنة 881 هـ مع عمارة المسجد النبوي، وهكذا حتى وصل الأمر إلى الدولة العثمانية فقد ذكر أن السلطان محمود خان العثماني جدده سنة 1240هـ وتكرر تجديده مرات متعددة كان آخرها في زمن السلطان عبد المجيد.

وفي العصور الاخيرة لقي مسجد قباء عناية كبيرة فرمم وجددت جدرانه الخارجية، وزيد فيه من الجهة الشمالية سنة 1388هـ، وفي عام 1405هـ أمر فهد بن عبد العزيز بإعادة بنائه ومضاعفة مساحته عدة أضعاف مع المحافظة على معالمه التراثية بدقة، فهدم المبنى القديم وضمت قطع من الأراضي المجاورة من جهاته الأربع إلى المبنى الجديد، وامتدت التوسعة وأعيد بناؤه بالتصميم القديم نفسه، ولكن جعلت له أربع مآذن عوضا عن مئذنته الوحيدة القديمة فضل المسجد: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الصلاة في مسجد قباء كعمرة، وعنه (صلى الله عليه وآله): من خرج حتى يأتي هذا المسجد - مسجد قباء - فصلى فيه كان له عدل عمرة، وعنه (صلى الله عليه وآله): من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره ولم يحمله على الغدو إلا الصلاة في مسجد قباء فصلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بأم القرآن كان له مثل أجر المعتمر إلى بيت الله[6]، عن عقبة بن خالد: سألت أبا عبد الله: (عليه السلام) إنّا نأتي المساجد التي حول المدينة فبأيها أبدأ؟ فقال: ابدأ بقباء فصلّ فيه وأكثر، فإنه أول مسجد صلّى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه العرصة[7].

المصدر: بيوت المتقين (15) - شهر ذو الحجة 1435هـ

 


[1]  التوبة: 107 - 108.

[2] المصباح المنير للفيومي ج 2 ص 489.

[3]  التوبة: 107 - 108 .

[4]  لسان العرب لابن منظور: ج 3، فصل الراء.

[5]  الصحيح من سيرة النبي الأعظم / السيد جعفر مرتضى/ج 4ص 229 - 231 بتصرف يسير.

[6] الغدير للاميني: 163 ، عن مجمع الزوائد للهثيمي: ص 11 .

[7] بحار الانوار: ج 19، ص120.