المقدمة:
إن قصة حياة القاسم بن الإمام الكاظم(عليه السلام) من القصص الغريبة والغامضة، والتي تكشف في نفس الوقت عن مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون في حق أهل البيت(عليهم السلام) وأبنائهم وأتباعهم، فقد نالهم من جَور بني العباس أضعاف ما نالهم من بني أمية، إذ أن بني أمية كانوا يكرهون بني هاشم قاطبة وينطلقون في عدائهم هذا لمحو أثار النبوة من الأساس، أما آل بني العباس فكانوا يرون أنفسهم أحق مَن يخلف النبي(صلى الله عليه وآله) من بني هاشم، فلذا كان عداؤهم منصباً على الطالبيين بالخصوص، فتبعوهم تحت كل حجر ومدر وأبادوهم قتلاً وسماً وغيلة، كأن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليس لهم بأب، ونتيجة هذه القسوة والملاحقة والقتل والبطش نجد مشاهد العلويين وأبناء الأئمة متفرقة في مختلف أقطار الأرض، في الأودية والجبال، في ايران وأفغانستان والعراق وأرمينيا وكشمير والهند، والتي يُعرف منها قسوة وشدة الملاحقة التي نالتهم.
ومن هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومضوا على سيرة آبائهم السيد الجليل سليل العترة الطاهرة(عليهم السلام) القاسم بن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، الأخ الشقيق للإمام الرضا(عليه السلام)، وفي هذه المناسبة نحاول أن نلقي نظرة على حياته الشريفة.
الاسم المبارك والولادة:
السيد القاسم بن الإمام موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).
ولد(رضي الله عنه)عام (150) للهجرة الشريفة وقيل في المدينة المنورة في أول شهر محرم، وأُمّه أُمّ ولد، وتكنّى بأُمّ البنين.
عاصر خلال حياته الشريفة أربعة من خلفاء بني العباس وهم: المنصور الدوانيقي، والمهدي، والهادي وهارون.
منزلته عند الامام الكاظم (عليه السلام):
كان سلام الله عليه جليل القدر، ويكفي في جلالة شأنه، ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي في باب النص على الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام)، عن يزيد بن سليط عن الإمام الكاظم(عليه السلام) في طريق مكة، في أن الإمام(عليه السلام) قال له: أُخْبِرُكَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أِنِّي خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي فَأَوْصَيْتُ إِلَى ابْنِي فُلَانٍ وأَشْرَكْتُ مَعَه بَنِيَّ فِي الظَّاهِرِ وأَوْصَيْتُه فِي الْبَاطِنِ فَأَفْرَدْتُه وَحْدَه، ولَوْ كَانَ الأَمْرُ إِلَيَّ لَجَعَلْتُه فِي الْقَاسِمِ ابْنِي، لِحُبِّي إِيَّاه ورَأْفَتِي عَلَيْه، ولَكِنْ ذَلِكَ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَجْعَلُه حَيْثُ يَشَاءُ، ولَقَدْ جَاءَنِي بِخَبَرِه رَسُولُ اللَّه(صلى الله عليه وآله) ثُمَّ أَرَانِيه وأَرَانِي مَنْ يَكُونُ مَعَه، وكَذَلِكَ لَا يُوصَى إِلَى أَحَدٍ مِنَّا حَتَّى يَأْتِيَ بِخَبَرِه رَسُولُ اللَّه(صلى الله عليه وآله) وجَدِّي عَلِيٌّ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه..).
وروى الشيخ الكليني أيضاّ عن سليمان الجعفري أنه قال: رأيت أبا الحسن الكاظم(عليه السلام)- عندما احتُضِر أحد أولاده - يقول لابنه القاسم: (.. قُمْ يَا بُنَيَّ فَاقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِ أَخِيكَ «والصَّافَّاتِ صَفّاً» حَتَّى تَسْتَتِمَّهَا فَقَرَأَ فَلَمَّا بَلَغَ: «أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا» قَضَى الْفَتَى).
فيظهر من هذين الخبرين كثرة عناية وتوجه الإمام (عليه السلام) إلى القاسم (رضي الله عنه).
أسباب اختفائه (رضي الله عنه):
إن اختفاء القاسم(رضي الله عنه)لم يكن بسبب الظلم والاضطهاد الذي كان يعاني منه العلويون في ذلك الوقت فقط، وإنما من أجل شغل السلطات بالبحث عنه، لأنهم كانوا يتصورون أن الإمام بعد موسى بن جعفر(عليهما السلام) هو ولده القاسم, فعندما تنشغل السلطة بالبحث عنه تَخُفّ وطأتهم عن الإمام الرضا(عليه السلام) ويكون في مأمن منهم نوعاً ما، وربما هذا الدور الذي قام به القاسم(رضي الله عنه)هو بوصية من الإمام الكاظم(عليه السلام)، فكانت له - كسائر ولده(عليه السلام) - الوصية العامة الظاهرة، فإذا بحثنا عن الدور الذي قام به القاسم(رضي الله عنه)خصوصا في السنين العشر الأولى من إمامة الإمام الرضا(عليه السلام)، فلا نجد شيئاً، لأنه مختف طيلة هذه الفترة.
مكوثه في منطقة سورا:
لمّا استُشهد الإمام الكاظم(عليه السلام) في سجن هارون الرشيد توارى القاسم(رضي الله عنه) عن أعين السلطة العبّاسية، واختفى في منطقة سورا، وتُعرف اليوم بمدينة القاسم، فعاش هناك زمناً متخفّياً متنكّراً لا يُعرف نسبه، حتّى كشفه بنفسه عند احتضاره؛ ليُعرف نسب ابنته، فتُؤخذ إلى بيت جدّتها في المدينة المنوّرة.
وقصّة هروبه وردت في كتاب شجرة طوبى كالآتي: «لمّا أشتدّ غضب الرشيد جعل يقطع الأيدي من أولاد فاطمة، ويسمل الأعين، وبناهم في الأسطوانات حتّى شرّدهم في البلدان، ومن جملتهم القاسم بن الإمام موسى بن جعفر، أخذ جانب الشرق لعلمه أنّ هناك جدّه أمير المؤمنين(عليه السلام)، جعل يتمشّى على شاطئ الفرات وإذا هو ببنتين تلعبان في التراب، إحداهما تقول للأُخرى: لا وحقّ الأمير صاحب بيعة يوم الغدير ما كان الأمر كذا وكذا، وتعتذر من الأُخرى، فلمّا رأى عذوبة منطقها قال لها: مَن تعنين بهذا الكلام؟ قالت: أعني الضارب بالسيفين والطاعن بالرمحين أبا الحسن والحسين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قال لها: يا بُنية، هل لكِ أن تُرشديني إلى رئيس هذا الحي؟ قالت: نعم، إنّ أبي كبيرهم.
فمشت ومشى القاسم (رضي الله عنه) خلفها حتّى أتت إلى بيتهم، فبقي القاسم(رضي الله عنه) ثلاثة أيّام بعزّ واحترام، فلمّا كان اليوم الرابع دنا القاسم (رضي الله عنه) من الشيخ وقال له: يا شيخ، أنا سمعت ممّن سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّ الضيف ثلاثة، وما زاد على ذلك يأكل صدقة، وإنّي أكره أن آكل الصدقة، وإنّي أُريد أن تختار لي عملاً اشتغل فيه لئلّا يكون ما آكله صدقة.
فقال الشيخ: أختر لك عملاً، فقال له القاسم (رضي الله عنه): اجعلني أسقي الماء في مجلسك، فبقي القاسم (رضي الله عنه)
على هذا إلى أن كانت ذات ليلة خرج الشيخ في نصف الليل في قضاء حاجة له، فرأى القاسم (رضي الله عنه) صافّاً قدميه ما بين قائمٍ وقاعد وراكع وساجد، فعظم في نفسه وجعل الله محبّة القاسم (رضي الله عنه) في قلب الشيخ، فلمّا أصبح الصباح جمع عشيرته وقال لهم: أُريد أن أُزوّج ابنتي من هذا العبد الصالح فما تقولون؟
قالوا: نِعم ما رأيت، فزوّجه من ابنته، فبقي القاسم (رضي الله عنه) عندهم مدّة من الزمان حتّى رزقه الله منها ابنة، وصار لها من العمر ثلاث سنين، ومرض القاسم (رضي الله عنه) مرضاً شديداً حتّى دنى أجله وتصرّمت أيّامه، جلس الشيخ عند رأسه يسأله عن نسبه وقال: ولدي لعلّك هاشمي؟
قال له: نعم، أنا ابن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، جعل الشيخ يلطم على رأسه وهو يقول: وا حيائي من أبيك موسى بن جعفر (عليهما السلام).
قال له: لا بأس عليك يا عمّ، إنّك أكرمتني وإنّك معنا في الجنّة، يا عم، فإذا أنا متّ فغسّلني وحنّطني وكفّني وادفنّي، وإذا صار وقت الموسم حجّ أنت وابنتك وابنتي هذه، فإذا فرغت من مناسك الحجّ أجعل طريقك على المدينة، فإذا أتيت المدينة أَنزِل ابنتي على بابها، فستدرج وتمشي، فامش أنت وزوجتي خلفها حتّى تقف على باب دارٍ عالية، فتلك الدار دارنا، فتدخل البيت وليس فيها إلّا نساء، وكلّهن أرامل.
ثمّ قضى نحبه، فغسّله وحنّطه وكفّنه ودفنه، فلمّا صار وقت الحج حجّ هو وابنته وابنة القاسم (رضي الله عنه)، فلمّا قضوا مناسكهم جعلوا طريقهم على المدينة، فلمّا وصلوا إلى المدينة أنزلوا البنت عند بابها على الأرض، فجعلت تدرج والشيخ يمشي خلفها إلى أن وصلت إلى باب الدار، فدخلت فبقي الشيخ وابنته واقفين خلف الباب، وخرجن النساء إليها واجتمعن حولها، وقلن مَن تكونين؟ وابنة مَن؟ فلمّا قلن لها النساء: ابنة مَن تكونين؟ فلم تجبهم إلّا بالبكاء والنحيب، فعند ذلك خرجت أُمّ القاسم، فلمّا نظرت إلى شمائلها جعلت تبكي وتنادي: وا ولداه، وا قاسماه، والله هذه يتيمة ولدي القاسم، فقلن لها: من أين تعرفينها إنّها ابنة القاسم؟ قالت: نظرت إلى شمائلها لأنّها تشبه شمائل ولدي القاسم، ثمّ أخبرتهم البنت بوقوف جدّها وأُمّها على الباب، وقيل: إنّها مرضت لمّا علمت بموت ولدها، فلم تمكث إلّا ثلاثة أيّام حتّى ماتت».
استحباب زيارته (عليه السلام)
قال السيد علي بن طاووس (قدس سره) في ذكر زيارة قبور أولاد الأئمة(عليهم السلام):
إذا أردت زيارة أحد منهم، كالقاسم بن الكاظم(عليهما السلام) أو العباس بن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أو علي بن الحسين(عليهما السلام) المقتول بالطف، ومن جرى في الحكم مجراهم، تقف على قبر المزور منهم صلوات الله عليهم، وتقول:
السلام عليك أيها السيد الزكي، الطاهر الولي، والداعي الحفي، أشهد أنك قلت حقا، ونطقت حقا وصدقا، ودعوت إلى مولاي ومولاك علانية وسرا فاز متبعك ونجا مصدقك، وخاب وخسر مكذبك، والمتخلف عنك، إشهد لي بهذه الشهادة لأكون من الفائزين بمعرفتك، وطاعتك، وتصديقك واتباعك، والسلام عليك يا سيدي وابن سيدي، أنت باب الله المؤتى منه، والمأخوذ عنه أتيتك زائرا، وحاجاتي لك مستودعا، وها أنا ذا أستودعك ديني وأمانتي، وخواتيم، عملي، وجوامع أملي، إلى منتهى أجلي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته[1].