لم تستمرّ حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد رحيل النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) كثيراً فالتاريخ يذكر أنها بقيت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ما بين 40-95 يوماً، وطبقاً لما نقلته كتب التاريخ - التي لعلّ شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة هو أكثرها جامعيّة في هذا المجال - فقد أقدمت (عليها السلام) على عدد من الخطوات. ففي مجلس ضمّ الخليفة الأوّل ومَن كان من المقرّر أن يكون الخليفة الثاني من بعده جاءت الزهراء (عليها السلام) وشكته بحضور جمع من الناس مستنكرة عليه إخراج عاملها من فدك فأجابها: (إنّها لبيت المال ونريد إنفاقها في مصالح المسلمين)! فأجابته بأنك تعلم أنّ رسول الله جعلها لي نحلة وليس للآخرين حقّ فيها، فقالا لها: (كلا، إنّها من المال العامّ المتعلّق ببيت المال ونحن نرى أنّ من المصلحة أن تُصرف في مصالح الأمة الإسلاميّة، فإن ادّعيتِ أنّ هذه الأرض لك فآت بشاهد على ذلك! - وهذا الطلب فيه مخالفة للأحكام الإلهية حيث أن فدك كانت بيد الزهراء (عليها السلام) إلى عشرة أيام بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) هذا أولا، وثانيا من المتسالم عليه عند المسلمين، بل ما تواترت به الأخبار، أنها (عليها السلام) صادقة مصدقة وذلك حسب قول النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أن القوم يرون في كتبهم أحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضلها وصدقها منها ما رواه الحاكم النيسابوري في كتابه حيث قال: عن عائشة أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله) قالت: (ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها)، ثم قال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)[1].
فكان ردّ الزهراء (عليها السلام) أنّه لو كان مال في يد مسلم وادّعيتُه أنا فهل ستطالبني أنا بالبيّنة أم ستطالب ذلك المسلم؟ فأنا ذات يدٍ وإنّ المدّعي على ذي يدٍ هو الذي ينبغي أن يُقدّم الشهود على مدّعاه، فقانون القضاء الإسلاميّ - بل قانون القضاء في جميع أنحاء العالم- ينصّ على أنّه إذا ادّعى شخص مالاً وهو في يد غيره وجب عليه تقديم البيّنة على ما يدّعيه، فقد روى الشيخ الصدوق u في علله عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (لما منع أبو بكر فاطمة (عليها السلام) فدكا وأخرج وكيلها جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى المسجد وأبو بكر جالس وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة (عليها السلام) ما جعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها ووكيلها فيه منذ سنين؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين فإن أتت بشهود عدول وإلا فلا حق لها فيه قال: يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف ما تحكم في المسلمين؟ قال: لا قال: أخبرني لو كان في يد المسلمين شئ فادعيت أنا فيه ممن كنت تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل قال: فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسألني فيه البينة؟ قال: فسكت أبو بكر، فقال عمر: هذا فيء للمسلمين ولسنا من خصومتك في شئ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبي بكر يا أبا بكر تقر بالقرآن؟ قال بلى، قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[2]. أفينا أو في غيرنا نزلت؟ قال: فيكم، قال: فأخبرني لو أن شاهدين من المسلمين شهدا على فاطمة (عليها السلام) بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين، قال: كنت إذن عند الله من الكافرين، قال: ولم؟ قال: لأنك كنت ترد شهادة الله وتقبل شهادة غيره لان الله عز وجل قد شهد لها بالطهارة، فإذا رددت شهادة الله وقبلت شهادة غيره كنت عند الله من الكافرين، قال: فبكى الناس وتفرقوا ودمدموا، فلما رجع أبو بكر إلى منزله بعث إلى عمر فقال: ويحك يا بن الخطاب أما رأيت عليا وما فعل بنا، والله لئن قعد مقعدا آخر ليفسدن هذا الأمر علينا ولا نتهنأ بشيء ما دام حيا...)[3].
ولم تكتفِ (عليها السلام) بذلك، بل إنها ومن أجل إتمام الحجّة، جاءت بعليّ (عليه السلام) وأُم أيمن كشاهدين، لكنّهما قالا: (عليّ شاهد واحد أمّا أم أيمن فهي امرأة ولا تكفي امرأة واحدة للشهادة)! وقد ذكرنا سلفا بأنّ من قواعد القضاء أنّه إذا كان أحد الشاهدين امرأة فإنّه يتعيّن عليها أن تحلف اليمين عوضاً عن الشاهد الآخر- هذا مع غض الطرف عن عصمة الإمام علي (عليه السلام) وكثرة أحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) في حقه- لكنّهما ردّا عليها بكلام غير مناسب، وقد استشهد أبو بكر لصحة ما ينسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (نحن معاشر الانبياء لانورث) بعائشة وعمر. وهنا لابد من القول: أن أبا بكر وعمر قد ردّا شهادة علي (عليه السلام) وأم أيمن بحجة: أن أم أيمن امرأة، ولا يجيز شهادة امرأة وحدها.. أقول: فكيف جازت شهادة عائشة لأبي بكر، مع أنها ابنته وهي امرأة وتجرّ النار إلى قرصها، وقرص أبيها؟! وكيف جازت شهادة عمر، وهو يجر إلى قرصه وقرص أبي بكر أيضاً؟ ! ويدل على ذلك قول علي (عليه السلام) لعمر: احلب يا عمر، حَلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غداً[4].
هذا.. ولا ريب في أن فاطمة وعلياً، والحسن والحسين (عليهم السلام) كلهم من مصاديق آية التطهير، المتضمنة للشهادة الإلهية بتطهيرهم من كل رجس، ومنه: الكذب، وهو معنى العصمة..
كما أن أم أيمن امرأة من أهل الجنة، وفي المقابل لا شيء يشهد أو يدل على عصمة أبي بكر، فضلاً عن عائشة، وعمر بن الخطاب، ثم إن في كتابة كتاب لها في بعض المرات عن فدك، ثم ينتزعه عمر منها ويمزقه، دليلاً على أن حديث عدم توريث الأنبياء، وكذلك سائر ما ادعاه أبو بكر لرد دعوى الزهراء (عليها السلام) لا أساس له، ويصبح ساقطاً، وغير ذي قيمة.. ويشهد على ذلك أيضاً: أن أبا بكر وعمر وعثمان لم ينتزع أي منهم الحُجَرَ من نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن قيل: إن الحُجَرَ لهن بنص القرآن حيث قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)[5].
وقيل في الجواب: تصح نسبة البيوت إليهن لأدنى ملابسة، وهي هنا كونهنَّ قد سكنَّ في تلك البيوت، يضاف إلى ذلك: أن الحُجَرَ قد نسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه بعد تلك الآية أيضاً. فقد قال تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ)[6].
ويدل على تراجعه أيضاً: وصيته أن يدفن إلى جوار النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن ذلك الموضع إن كان صدقة للمسلمين، فلا يصح تصرّف أبي بكر فيه، وإن كان إرثاً لعائشة، فقد بطل حديث عدم إرث الأنبياء، وإن كانت الحجرة لفاطمة (عليها السلام)، فلماذا لم يُستأذن من ورثة فاطمة (عليها السلام)؟! كما أن ابنته عائشة قد رجعت عن شهادتها له بحديث عدم توريث الأنبياء حين أذنت له ولعمر بأن يدفنا مع النبي (صلى الله عليه وآله)، مدَّعية أن الحجرة لها، كما أنها قد منعت من دفن الإمام الحسن (عليه السلام) مع جده قائلة: ما لي ولكم؟ ! تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أحب، مع أن حديث عدم توريث الأنبياء يدل على أن البيت ليس بيتها.. وأي سبب آخر تدَّعيه لملكية البيت يحتاج إلى إثبات، ولا تكفي فيه مجرد الدعوى، والجدير بالذكر أن أحد الباحثين أثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يُدفن في الحجرة التي كانت تسكنها عائشة حيث قال: (... وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر، أما غرفة عائشة فقد نصوا على أنه كان لها باب واحد! إلى غير ذلك من الأدلة على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يُدفن في بيت عائشة، ولا تمرض فيه كما زعموا، لكن السلطة سيطرت على بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم ادعت عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطاها هذه الحجرة، وأشاعت السلطة أن النبي (صلى الله عليه وآله) دفن في حجرة عائشة)![7].
كما ينبغي الإشارة إلى قضية، وهي: أن عمر بن الخطاب أبطل حديث أبي بكر (نحن معاشر...) حسب ما أخرجه بعض كبار علماء العامة أمثال العلامة السمهودي في كتابه وفاء الوفاء في تاريخ مدينة المصطفى، وياقوت الحموي: ( ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب بعده - أي: بعد أبي بكر - لما وُلي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين، أن يردها إلى ورثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) [8]، فإذا كانت فدك فيئا للمسلمين وقد أخذها أبو بكر حسب الحديث الذي سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله)، فبأي سبب ردها عمر وجعلها في يد علي والعباس دون سائر المسلمين؟!
كما أن عثمان بن عفان - وهو من الخلفاء الراشدين حسب زعمهم - قد أبطل حديث أبي بكر الموضوع، وذلك من خلال كلامه مع عائشة وحفصة، عندما قطع ما كان لهما من الأموال على عهد الأولين (فجاءته عائشة معترضة فقال لها: لا أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما، وأنا لا أفعل! قالت له: فأعطني ميراثي من رسول الله)[9].
وفي قول آخر: (لا والله ولا كرامة لكما ولا نعمت عنه! ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله يقول: النبي لا يورث، ما ترك فهو صدقة! ثم لقنتما أعرابياً جلفاً يبول على عقبيه ويتطهر ببوله (مالك بن أوس بن الحدثان) فشهد معكما! ولم يكن في أصحاب رسول الله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي.
أما والله ما أشك أنه قد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذبتما عليه معه، ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما! فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه)[10]. (فقال عثمان: إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما، وأنا بأصلهما عالم)[11].
[1] المستدرك: ج3، ص160.
[2] سورة الأحزاب: آية 33.
[3] علل الشرائع: ص190.
[4] السقيفة وفدك: ص62.
[5] سورة الأحزاب: آية 33.
[6] سورة الأحزاب: آية 53.
[7] جواهر التأريخ للشيخ الكوراني: ج3، ص351.
[8] مادة (فدك) معجم البلدان.
[9] الأمالي للشيخ المفيد: ص125.
[10] كتاب سُليم بن قيس: ص242.
[11] السقيفة وفدك: ص82.