في الخامس عشر من شهر شوال سنة 3 هـ، وقعت غزوة أحد، وأحد جبل يبعد عن المدينة المنورة ميلين أو ثلاثة. ويسمّى بذلك لانفراده وانقطاعه عن جبال اُخر هناك، وهو الذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) حين وقع نظره إليه: (اُحُد جبل يحبّنا ونحبّه)[1].
سبب هذه الغزوة:
بعد الهزيمة القاسية التي مُني بها المشركون في معركة بدر حيث أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، فقد قتل منهم سبعون شخصاً وأسر سبعون آخرون، وعندما رجعت قريش من بدر إلى مكة منعهم أبو سفيان من البكاء والنوح على قتلاهم ليبقوا على حَنَقهم وغيظهم ويفكّروا في الثأر لقتلاهم، وقال تأكيداً لذلك: (الدهن والنساء عليَّ حرام حتّى أغزو محمداً)[2]، وهكذا أَلّبتْ قريش الناس على المسلمين وحرّكتهم لمقاتلتهم وسرت نداءات (الانتقام الانتقام) في كل نواحي مكة.
وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي(صلى الله عليه وآله)، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل، مجهزين بكل ما يحتاجه القتال الحاسم، وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام، ليثبتوا في ساحات القتال.
العباس يرفع تقريرا إلى النبي (صلى الله عليه وآله):
لم يكن العباس عم النبي قد أسلم إلى تلك الساعة، بل كان باقيا على دين قريش، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب، ولهذا فإنه عندما عرف بتعبئة قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي(صلى الله عليه وآله)، بادر إلى إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) عن طريق إرسال رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكة وعزم قريش.
النبي (صلى الله عليه وآله) يشاور المسلمين:
لما تأكد النبي(صلى الله عليه وآله) من وجود قوات كبيرة يقودها أبو سفيان تزحف باتجاه المدينة استدعى النبي(صلى الله عليه وآله) جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف، وما يمكن أو يجب اتخاذه للدفاع، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة الأعداء الغزاة في داخلها، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها، ولقد كان هناك خلاف شديد في الرأي بين المسلمين في هذه الأمور، فاختار النبي(صلى الله عليه وآله) بعد المشاورة رأي الأغلبية، والتي كانت تتألف - في الأكثر - من الشباب المتحمسين، وهو الخروج من المدينة ومقاتلة العدو خارجها، بعد الاستقرار عند جبل (أحد) باعتباره أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.
المسلمون يتهيؤون للدفاع:
تولّى النبي(صلى الله عليه وآله) بنفسه قيادة المقاتلين وقد أمر بأن تعقد ثلاثة ألوية، دفع واحدا منها للمهاجرين، واثنين منها للأنصار، ثم إن النبي(صلى الله عليه وآله) قطع المسافة بين المدينة و(أحد) مشيا على الأقدام، وكان يستعرض جيشه طوال الطريق، ويرتب صفوفهم، وبعد أن وصل استقر عند الشِعب من (أحد) في عَدوة الوادي وجعل (أُحُداً) خلف ظهره واستقبل المدينة. وبعد أن صلى بالمسلمين الصبح صفَّ صفوفهم وتعبأ للقتال، فأمّر على الرماة (عبد الله بن جبير) والرماة خمسون رجلا جعلهم(صلى الله عليه وآله) على الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلا: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم .
ومن جانب آخر، وضع أبو سفيان (خالدَ بن الوليد) في مِأتي فارس كمينا يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم.
بدء القتال:
اصطفَّ الجيشان للحرب فصاح طلحة بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: مَنْ يُبارز؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب(عليه السلام) فبدره بضربة على رأسه فقتله، ثم تقدّم بلواء المشركين أخوه والنساء خلفه يحرّضن ويضربن بالدفوف فتقدم نحوه حمزة عم النبي(صلى الله عليه وآله) وضربه ضربة واحدة وصلت إلى رئته فمات، وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر هزيمة، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلولهم، وفي إرشاد الشيخ المفيد: (كان أصحاب اللواء يوم أحد تسعة قتلهم علي(عليه السلام) عن آخرهم)[3].
ولمّا علم (خالد) بهزيمة المشركين وأراد أن يتسلل من خلف الجبل ليهجم على المسلمين من الخلف رشقه الرماة بنبالهم، وحالوا بينه وبين نيته.
هذه الهزيمة التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي العهد بالإسلام إلى التفكير في جمع الغنائم والانصراف عن الحرب، بظن أن المشركين هُزموا هزيمة كاملة، حتى أن بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل متجاهلين تذكير قائدهم (عبد الله بن جبير) إياهم بما أوصاهم به النبي(صلى الله عليه وآله) ولم يبق معه إلا قليل، فتنبه (خالد بن الوليد) إلى قلة الرماة في ذلك المكان، فكرّ راجعاً بالخيل (وعددهم مائتا رجل كانوا معه في الكمين) فحملوا على (عبد الله بن جبير) ومن بقي معه من الرماة وقتلوهم بأجمعهم، ثم هجموا على المسلمين من خلفهم، وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم، وداخَلَهم الرعب، فاختل نظامهم، وأكثَرَ المشركون من قتل المسلمين، وألحقوا بهم ضربات مؤلمة، حتى إنهم كسروا رباعية النبي(صلى الله عليه وآله)، وشجوا جبينه المبارك، واستشهد - في هذه الكرة - طائفة من أصحاب النبي الشجعان، وفرّ بعضهم خوفاً، ولم يبقَ حول النبي(صلى الله عليه وآله) سوى نفر قليل جداً يدافعون عنه ويردّون عنه عادية الأعداء، وكان أكثرهم دفاعاً عن النبي(صلى الله عليه وآله)وردا لهجمات العدو، وفداء بنفسه هو (الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)) الذي كان يذبّ عن النبي(صلى الله عليه وآله) الطاهر ببسالة منقطعة النظير، حتى إنه تكسّر سيفه فأعطاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) سيفه المسمى بذي الفقار، ثم تترس النبي بمكان، وبقي علي(عليه السلام) يدفع عنه حتى لحقه - حسب ما ذكره المؤرخون - ما يزيد عن ستين جراحة في رأسه ووجهه ويديه وكل جسمه المبارك، وفي هذه اللحظة قال جبرائيل (إن هذه لهي المواساة يا محمد) فقال النبي(صلى الله عليه وآله): (إنه مني وأنا منه) فقال جبرائيل: (وأنا منكما).
قال الإمام الصادق(عليه السلام): نظر رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى جبرائيل بين السماء والأرض وهو يقول: (لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)[4].
شهادة الحمزة (عليه السلام):
كان الحمزة بن عبد المطلب عم النبي(عليه السلام) يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد، وكانت هند قد أعطت وحشياً عهداً: بأنه إن قتل محمداً، أو علياً، أو حمزة، لأعطته رضاه.
فقال وحشي: أما محمد فلا أقدر عليه، وأما علي فرأيته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلم أطمع فيه، وأمّا حمزة فإني أطمع فيه، لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه.
ويقول وحشي: واللهِ إني لأنظر إلى حمزة يهدّ الناس بسيفه ما يلقي أحداً يمر به إلا قتله فهززت حربتي فرميته فوقعت في أربيته[5]، حتى خرجت من بين رجليه فوقع فأمهلته حتى مات وأخذت حربتي وانهزمت من المعسكر.
وروي أن هند وقعت على القتلى ولما وصلت إلى حمزة بقرتْ بطنه وأخرجت كبده، فلاكته فلم تستطع أن تسيغه فلفظته، كما قطعت أصابعه وأنفه وأذنيه وجعلتها قلادة لها، ولما رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما صنع بحمزة انتحب وتأذى لذلك كثيرا.
من الصائح (قُتل محمد)؟
في أثناء المعركة صاح صائح: قتل محمد، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن (ابن قمئة) الذي قتل الجندي الإسلامي البطل(مصعب بن عمير) وهو يظن أنه النبي، هو الذي صاح (واللات والعزى: لقد قتل محمد). وسواء كانت هذه الشائعة من جانب المسلمين، أو العدو فإنها - ولا ريب - كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه إلى مكة بظنه أن النبي(صلى الله عليه وآله) قد قتل وانتهى الأمر، ولولا ذلك لكان جيش قريش الفاتح الغالب لا يترك المسلمين حتى يأتي على آخرهم لما كانوا يحملونه من غيظ وحنق على النبي، بل ولما كانوا يتركون ساحة القتال حتى يقتلوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأنهم لم يجيئوا إلى (أحد) إلا لهذه الغاية. لم يرد ذلك الجيش الذي كان قوامه ما يقارب خمسة آلاف - وبعد تلك الانتصارات - أن يبقى ولو لحظة واحدة في ساحة القتال، ولذلك غادرها في نفس الليلة إلى مكة، وقبل أن يندلع لسان الصباح.
إلا أن شائعة مقتل النبي(صلى الله عليه وآله) أوجدت زلزالاً كبيراً في نفوس بعض المسلمين، ولذلك فرَّ هؤلاء من ساحة المعركة، وأما من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا - بهدف الحفاظ على البقية من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم - إلى أخذ النبي(صلى الله عليه وآله) إلى الشعب من (أحد) ليطلع المسلمون على وجوده الشريف ويطمئنوا إلى حياته، وهكذا كان، فإنهم لما عرفوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول(صلى الله عليه وآله) ولامهم النبي(صلى الله عليه وآله) على فرارهم في تلك الساعة الخطيرة، فقالوا يا رسول الله أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين.
وهكذا لحقت بالمسلمين - في معركة أحد - خسائر كبيرة في الأموال والنفوس، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان القتال، كما جرح جماعة كبيرة، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درسا كبيرا ضَمِن انتصاراتهم في المعارك القادمة.
أبرز عوامل الهزيمة في (أحد):
1- الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الانتصار، وإن الله - لذلك - سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للانتصار من اختيار الخطة الصحيحة، وإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.
2- عدم الانضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد(صلى الله عليه وآله) المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل، والذبّ عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.
3- حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام إلى الانصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع الأسلحة حتى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، والحال أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأمور والتوجه بالكامل إلى الهدف الرئيس وهو القتال.
4- الغرور الناشئ عن الانتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته، ويستصغرون شأنه[6].