طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام)

- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: (إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً وإِنَّ الله اتَّخَذَه نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه رَسُولاً وإِنَّ الله اتَّخَذَه رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه خَلِيلاً وإِنَّ الله اتَّخَذَه خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَه إِمَاماً فَلَمَّا جَمَعَ لَه الأَشْيَاءَ قَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، قَالَ فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، قَالَ لَا يَكُونُ السَّفِيه إِمَامَ التَّقِيِّ)[1].

الشرح:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً- الخ )،
 إنّ الرِّسالة أرفع درجة من النبوَّة كما يظهر من الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام)
والنبوَّة أرفع درجة من العبوديّة فإنَّ أكثر الناس لهم درجة العبوديّة وليست لهم درجة النبوَّة، وأمّا قبليّة الرِّسالة على الخُلّة والخُلّة على الإمامة فالوجه فيها أنَّ الخُلّة قيل عنها: هي فراغ القلب عن جميع ما سواه، والخليل مَن لا يتّسع القلب لغيره وقد كان إبراهيم (عليه السلام) بهذه الصفة كما يرشد إليه قوله (عليه السلام)، حين قال له جبرائيل (عليه السلام): (ألك حاجة)، وقد رُمي بالمنجنيق فقال (عليه السلام): (أمّا إليك فلا)، فنفى (عليه السلام) في تلك الحالة العظيمة أن يكون له حاجة إلى غير الله تعالى ولا شبهة في أنَّ هذه الدَّرجة فوق درجة الرِّسالة إذ كلُّ رسول لا يلزم أن تكون له هذه الدَّرجة.

وقيل: الخلّة صفاء المودَّة ولا يبعد إرجاعه إلى القول الأوَّل لأنَّ مَن كانت مودَّته لله تعالى صافية لم تكن له حاجة إلى غيره أصلاً ولا ينظر إلى سواه قطعاً وإلاّ لكانت مودَّته مشوبة في الجملة.

وقيل: الخلّة اختصاص رجل بشيء دون غيره، ولا ريب في أنّه كان له (عليه السلام) قرب منه تعالى لم يكن لغيره وهذه الدَّرجة أيضاً فوق درجة الرِّسالة.

وأمّا الإمامة فهي أفضل من الخلّة لأنّها فضيلة شريفة ودرجة رفيعة وأجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها البشر بعقولهم، وقد شرَّف الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) بها فقال: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، يأتمّون بك ويتّبعونه في الأقوال والأعمال والعقائد، بعد ما أعطاه الدّرجات السابقة، فعظمت الإمامة في عينه (عليه السلام) فقال سروراً بها (ومِنْ ذُرِّيَّتِي)، قال الزمخشري في الفائق: الذُّرِّيّة من الذَّرِّ لأنَّ الله تعالى ذرَّهم في الأرض، أو من الذَّرء بمعنى الخلق،... وهي نسل الرَّجل، وقال المطرَّزي في المغرب: ذريّة الرَّجل أولاده ويكون واحداً وجمعاً ومنه قوله تعالى: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)[2].
فقال الله تعالى إيماء إلى إجابة دعائه وتصريحاً بأنَّ الظالم في الجملة لا ينالها (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أي الموصوفين بالظلم وقتاً مّا، قال القاضي فيه إجابة إلى ملتمسه وتنبيه على أنّه قد يكون من ذرِّيّته ظلمة وأنّهم لا ينالون الإمامة من الله لأنّها أمانة من الله وعهده، والظالم لا يصلح لها وإنّما ينالها البررة الأتقياء منهم، وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة وأنَّ الفاسق لا يصلح للإمامة، فأبطلت هذه الآية إمامة كلِّ سفيه وتقدُّم كلِّ ظالم على البرِّ التقي إلى يوم القيامة وقرَّرتها في الصفوة.

ثمَّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذرِّيّته أهل الصفوة والطهارة فقال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[3]، فلم تزل الإمامة والخلافة في ذرِّيّته الطاهرة يرثها بعض عن بعض قرناً بعد قرن حتّى ورثها الله تعالى نبيّنا (صلى الله عليه وآله) فقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)[4].
 فكانت لهم خاصّة فقلّدها (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) بأمر الله تعالى فصارت في ذرِّيّته الأصفياء الأتقياء البررة الكرماء الّذين هم أولو الأمر كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)[5]، ثمَّ إنّ طائفة من اللّصوص المتغلّبة الّذين نشأت عقولهم وعظامهم ولحومهم في عبادة الأوثان غصبوها من أهل الصفوة فضلّوا وأضلّوا كثيراً.

2- عَنْ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: (سَادَةُ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ خَمْسَةٌ وهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وعَلَيْهِمْ دَارَتِ الرَّحَى نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْه وآلِه وعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ).

الشرح:

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث: (...وعَلَيْهِمْ دَارَتِ الرَّحَى)، يقال: دارت رحى الحرب إذا قامت على ساقها وأصل الرَّحى هي الّتي يطحّن بها والمعنى يدور عليهم الإسلام ويمتدُّ قيام أمره على سنن الاستقامة والبعد من أحداث الظلمة الكفرة فهم بمنزلة القطب من الرَّحى.

ويفسّر هذا الحديث ما روي عن سماعة بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عزَّ وجلَّ: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ)[6].
فقال (عليه السلام): (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (عليه السلام)).

قلت: كيف صاروا أولي العزم؟

قال (عليه السلام): (لأنَّ نوحاً بعث بكتاب وشريعة، وكلُّ مَن جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتّى جاء إبراهيم(عليه السلام) بالصحف، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به، فكلُّ نبيّ جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتّى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه، وبعزيمة ترك الصحف، فكلُّ نبيّ جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهــــاجه حتّى جاء المسيح (عليه السلام) بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكلُّ نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتّى جاء محمد (صلى الله عليه وآله) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فهؤلاء أُولو العزم من الرُّسل (عليهم السلام)).

مجلة بيوت المتقين العدد (34)

 


[1] الكافي، الشيخ الكليني، ج١، ص١٧٥.

[2] سورة آل عمران: آية 77.

[3] سورة الأنبياء: آية 72-73.

[4] سورة آل عمران: آية 68.

[5] سورة النساء: آية 59.

[6] سورة الأحقاف: آية 35.