من الأمور التي تشترك بها الأمم والشعوب هي احترام وتقديس وتقدير العلماء والشهداء ورجال البناء والتضحية في سبيل المبادئ الحقّة والقيم الإنسانية السامية، ولعل الأمة الإسلامية لها الحظّ الأوفر من كمّ وكيف العظماء، فهي تملك رصيداً ضخماً من رجال الفكر والجهاد والتضحية والقيم في مختلف جوانب الحياة، وما ذاك إلا نتيجة الارتباط بشخصيةٍ تولىّ الباري جلّ وعلاّ الاهتمام بها وتربيتها وتأديبها، ونكاد نجزم أنّ كل من سار على نهج وهَدي النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله) دخل أبواب الخلد بجدارة، نعم استطاع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أن يؤسس ويبني دولةً وحضارة في مقطع زمني يسير، لم يتجاوز العقد الواحد، وهذا الإنجاز والعطاء الضخم له عدّة مقومات وأسس، فبالإضافة إلى التأييد والتسديد الإلهي نجد هِمم الرجال الأبطال الذين كانوا يدورون في فلك النبوة والرسالة، والذين تعلّقوا بشخص الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، ولم تُلههم تجارة ولا بيع، أو الصفق في الأسواق، الذين آمنوا ولم يخلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً، ولم يشكّوا ولم يرتابوا، وكانوا على هدى من ربهم، الذين اشترى الله منهم أنفسهم، ورضي الله عنهم، وأحبّوا الله ورسوله وأحبّهم الله ورسوله، وما قام الإسلام الا بجهادهم وتضحياتهم وأموالهم.
ومن هؤلاء العظماء شخص أخلص لله بأبهى صور الإخلاص، وصدّق بالقول والفعل وقبْلهما النية الطيبة، واتبع النبي(صلى الله عليه وآله) أيّما اتباع، فكان حقاً مصداقاً لحديث الثقلين، حيث تمسك بالقرآن والعترة، فحاز على السعادة في الدارين، وهو المقداد الكندي، اسم تألق في سماء الإيمان والولاية، فنال رضى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وحاز أوسمة المدح والثناء من الله تعالى متمثلة بجواهر كلام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث قوله (صلى الله عليه وآله): «إن الله عز وجل أمرني بحبّ أربعة من أصحابي، وأخبرني أنه يحبهم، قلنا: يا رسول الله فمن هم فكلنا نحب أن نكون منهم؟ فقال (صلى الله عليه وآله): ألا إن علياً منهم، ثم سكت، ثم قال (صلى الله عليه وآله): ألا إن علياً منهم وأبو ذر وسلمان الفارسي والمقداد ابن الأسود الكندي»[1].
وهناك أحاديث كثيرة نطق بها الصادق الأمين (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)[2] تعبّر وتُظهر بوضوح عظيم منزلة هذا الصحابي الجليل، منها ما رواه الصدوق[3]، وابن عساكر[4]، وغيرهما، واللفظ للأول: ... حدثني سيدي علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن علي (عليهم السلام) قال: «قال النبي(صلى الله عليه وآله): الجنة تشتاق إليك وإلى عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد»[5].
من هو المقداد:
اشتهر بأنه ابن الأسود ولُقب بالكندي، والحقيقة خلاف هذا المشهور، فقد ذكر الشيخ المفيد[6]: وكنية المقداد أبو معبد وهو مقداد بن عمرو البهراني، وكان الأسود بن عبد يغوث الزهري تبناه فنُسب إليه، قال ابن حجر[7]: المقداد بن الأسود الكندي هو بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود البهراني وقيل الحضرمي، قال بن الكلبي: كان عمرو بن ثعلبة أصاب دماً في قومه فلحق بحضرموت فحالف كندة فكان يقال له الكندي، وتزوج هناك امرأة فولدت له المقداد، فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي فضرب رجله بالسيف وهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث الزهري وكتب إلى أبيه فقدم عليه فتبنى الأسود المقداد فصار يقال المقداد بن الأسود وغلبت عليه واشتهر بذلك فلما نزلت: (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ)[8] قيل له: المقداد بن عمرو واشتهرت شهرته بابن الأسود.
إسلامه:
كان المقداد في مكة، فبلغه خبر النبي(صلى الله عليه وآله)، فأسرع إلى الإيمان به، ذكرت كتب المسلمين أنه كان من السابقين، ذكر ذلك ابن عساكر في تاريخه، والذهبي، وابن حنبل وغيرهم، فقد عدّوا أوائل المسلمين ومنهم المقداد، وكان يتحين الفرص للالتحاق بالنبي(صلى الله عليه وآله)، وفي السنة الأولى من الهجرة عقد النبي(صلى الله عليه وآله)لواء أبيض لعمه حمزة (رضي الله عنه)لمعارضة قوافل قريش، وخرجت قريش فخرج المقداد معهم وهو عازم على الالتحاق بالمسلمين، فلما التقيا انضم المقداد إلى صفوف المسلمين، وبهذا بدأت المسيرة الجهادية لهذا الصحابي العظيم، فقد هاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها وكان فارسا يوم بدر حتى إنه لم يثبت أن أحدا كان فيها على فرس غيره .
في غزوة بدر:
الأحداث تمر والزمان يتصرم لكن المواقف تبقى والتاريخ يسجلها، سلبية كانت أو إيجابية، كما أن المواقف ترسم لنا شخصية صاحبها، وتكشف عن سريرة الإنسان، فنجد أن المقداد(رضي الله عنه) من الذين سجل لهم التاريخ بجدارة تلك المواقف البطولية، في وقت تخاذل فيه الغير ممن يحاول كتّاب السلطة أن يُضفوا عليهم صبغة الشجاعة والرأي، فبعد أن أفلتت قافلة قريش بقيادة الطُلقاء، لم يبق سوى خيار المواجهة العسكرية مع جيش المشركين من قريش، فحاول النبي(صلى الله عليه وآله)
أن يستكشف ويظهر ما أضمرت قلوب جيشه، وكان الوحي قد رسم لنا حالهم آنذاك بقوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)[9]، فطلب منهم أن يتكلموا، فقام اثنان من المهاجرين- من الذين سُرقت لهم الألقاب وأُلصقت بهم فيما بعد- فتكلموا بكلام لا يناسب الإيمان والرجولة والبطولة وفيه تخذيل للمقاتلين، فأعرض عنهم(صلى الله عليه وآله)، فعندها قام صاحب المواقف البطولية النابعة من إيمان عميق وصدح بما يُرضي الله ورسوله، فكان لكلامه(رضي الله عنه)الأثر الواضح على نفوس المسلمين، مما حدى بالنبي (صلى الله عليه وآله) أن يثني عليه ويدعو له، وقد أوردت هذا الموقف مصادر المسلمين من الفريقين، كابن الأثير في أُسد الغابة[10]، والطبري في تاريخه[11] ، والأمين في أعيانه[12]، واللفظ للأول حيث روى أنه قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) امضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (... فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[13]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سِرتَ بنا إلى برك الغماد[14] لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله) خيراً، ودعا له بخير)[15].
المقداد والقرآن:
يعتبر المقداد من أوضح مصاديق بعض الآيات القرآنية، فقد ورد في تفسير البرهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)[16]، قال: نزلت في أبي ذر، وسلمان الفارسي، والمقداد، وعمار بن ياسر، جعل الله لهم جنات الفردوس نزلا، أي مأوى ومنزلا)[17] .
وذكر الحميري القمي المتوفى (304) في قرب الإسناد: حدثنا جعفر، عن آبائه: أنه لما نزلت هذه الآية على رسول الله(صلى الله عليه وآله): (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[18]، (قام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى قد فرض لي عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدّوه؟ قال: فلم يجبه أحد منهم، فانصرف فلما كان من الغد قام فيهم فقال مثل ذلك، ثم قام فيهم فقال مثل ذلك في اليوم الثالث، فلم يتكلم أحد، فقال: يا أيها الناس، إنه ليس من ذهب ولا فضة ولا مطعم ولا مشرب، قالوا: فألقه إذا، قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل عَليّ )قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فقالوا: أما هذه فنعم، فقال أبو عبد الله: فوالله ما وفى بها إلا سبعة نفر: سلمان، وأبو ذر، وعمار، والمقداد بن الأسود الكندي، وجابر بن عبد الله الأنصاري ...)[19].
كما ذكر المجلسي في بحاره: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن سلمان الفارسي فقال(صلى الله عليه وآله): سلمان بحر العلم... قلت: فما تقول في المقداد؟ قال: وذاك منا، أبغض الله من أبغضه، وأحب من أحبه... )[20].
التمسك بحديث الثقلين:
لقد عصفت بالأمة الإسلامية أحداث جسيمة قبيل شهادة النبي(صلى الله عليه وآله)وبعدها، أدت بشكل وآخر إلى انقلاب البعض وعدولهم عن الصراط المستقيم، وأظهروا مكامن الحقد وعدم الإيمان بما جاء به النبي(صلى الله عليه وآله)علَناً وهذا لا ينكره أحد، فكانوا مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَائن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[21]، وفي المقابل هناك من ثبت على الميثاق وصدق ما عاهد عليه، وأفنى حياته في سبيل إعلاء كلمة الحق والذود عن حياض الإسلام، وكان مثالاً للذين آمنوا، مطيعاً لأمر النبي(صلى الله عليه وآله)، غير مجادل، فكان من الصادقين، ومصداقاً للآية الكريمة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[22].
مواقف إيمانية:
وله مواقف جليلة من بعد النبي(صلى الله عليه وآله)ناصر فيها أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأنكر على المخالفين تولّيهم الخلافة، وعاش إلى أيام عثمان، وكان منابذاً له[23]، حتى أن عثمان رماه بالشرك، فقد ورد في الكافي: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن عثمان قال للمقداد أما والله لتنتهين أو لأردنك إلى ربك الأول، قال: فلما حضرت المقداد الوفاة قال لعمار أبلغ عثمان عني أني قد رُددت إلى ربي الأول)[24].
من حكمته:
اشتهر بالحكمة والبطولة والحب لله تعالى ورسوله وعترته(عليهم السلام)، ورد في مسند أحمد: (... قال جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً فمر به رجل فقال طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله(صلى الله عليه وآله) والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت فاستغضب فجعلت أعجب ما قال إلا خيرا ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنّى محضراً غيّبه الله عنه لا يدرى لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله(صلى الله عليه وآله) أقوام أكبّهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدّقوه، أو لا تحمدون الله...)[25].
وفاته:
مات (رحمه الله) بالجرف على عشرة أميال من المدينة وحمل على رقاب الرجال، كانت وفاته بالمدينة في خلافة عثمان وكان عمره سبعين سنة، قال ابن حجر في الاصابة[26] : اتفقوا على أنه مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، وقال اليعقوبي في تاريخه [27] : وكان أوصى إلى عمار بن ياسر، وصلى عليه، ولم يؤذن عثمان به- كما صلّى على ابن مسعود - فاشتد غضب عثمان على عمار، وقال: ويلي على ابن السوداء أما لقد كنت به عليماً، فلما بلغ عثمان موته، جاء حتى أتى قبره، يثني عليه خيراً فقال الزبير بن العوام:
لألفينك بعد المـــوت تندبنـي وفي حياتي ما زودتني زادي
راجع تاريخ دمشق لابن عساكر[28]، معرّضاً بالعداء الذي كان بينه وبين المقداد وأخباره كثيرة ومواقفه شهيرة، فسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حيا.
مجلة بيوت المتقين العدد (11)
[1] الخصال للصدوق: ص254.
[2] سورة النجم: آية 3و4.
[3] الخصال للصدوق: ص303.
[4] تاريخ ابن عساكر: ج60، ص176.
[5] الخصال للصدوق: ص303.
[6] الاختصاص الشيخ المفيد: ص8.
[7] الإصابة ابن حجر: ج6.
[8] سورة الأحزاب: آية 5.
[9] الأنفال: آية 7.
[10] أُسد الغابة ابن الاثير: ج4.
[11] تاريخ الطبري: ج2.
[12] أعيان الشيعة الأميني: ج1.
[13] سورة المائدة: آية24.
[14] يعني مدينة الحبشة.
[15] الكامل في التاريخ ابن الأثير: ج2، ص 120.
[16] سورة الكهف: آية107.
[17] تفسير البرهان للبحراني: ج3، ص688.
[18] سورة الشورى: آية23.
[19] قرب الاسناد الحميري القمي: ص79.
[20] بحار الأنوار للمجلسي: ج22، ص 347.
[21] سورة آل عمران: آية144.
[22] سورة الحجرات: آية 15.
[23] ابن ادريس في السرائرص30.
[24] الكافي للكليني: ج8، ص 331.
[25] مسند أحمد بن حنبل: ج6، ص3.
[26] الاصابة ابن حجر: ج 6، ص161.
[27] تاريخ اليعقوبي: ج2، ص171.
[28] تاريخ دمشق ابن عساكر: ج60.