قال تعالى:(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[1].
سبب النزول:
روي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إن اليهود سألوا رسول الله: لم خُلِقت هذه الأهلة؟ فنزلت هذه الآية، لتقول إن للأهلة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.
التقويم الطبيعي: كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أن جماعة سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرجة وعن أسبابها ونتائجها، فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ).
(أَهِلَّة) جمع " هلال " ويعني القمر في الليلة الأولى والثانية من الشهر، وقال بعضهم: إن التسمية تطلق عليه لثلاث ليالي من أول الشهر وبعد ذلك يسمّى (قمر)، وذهب بعضهم إلى أكثر من هذا المقدار.
ذكر الراغب في المفردات أن أصل هذه المفردة هو الهلال في بداية الشهر وقد استفيد منه (استهلال الصبي) أي بكائه عند ولادته.
ويستفاد من جملة (يَسْأَلُونَكَ) التي هي فعل مضارع يدل على التكرار، أن هذا السؤال قد تكرر مرات عديدة على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثم تقول الآية: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية، يجعل منها تقويما طبيعيا يساعد الناس على تنظيم أمورهم الحياتية القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم أمور عباداتهم المحددة بزمان معين كالحج والصوم.
هذا التقويم الطبيعي ميسور لجميع البشر متعلمهم وأمّيّهم، في جميع بقاع الأرض، وهو وسيلة تعيّن التاريخ بدقة.
من امتيازات قوانين الإسلام أن أحكامه قائمة عادة على المقاييس الطبيعية؛ لأن هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئا.
أما المقاييس غير الطبيعية، فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع البشر حتى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحدة.
لذلك نرى أن المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس الشبر والخطوة والذراع والقامة، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر وزوال الشمس ورؤية الهلال.
وهنا يتضح امتياز الأشهر القمرية عن الشمسية، فالبرغم من أن كلا منهما يترتب على حركات الكواكب السماوية، ولكن الأشهر القمرية قابلة للمشاهدة من الجميع، في حين أن الأشهر الشمسية لا يمكن تشخيصها إلا بواسطة المنجمين وبالوسائل الخاصة لديهم، فيعرفون مثلا أن الشمس في هذا الشهر سوف تقع في مقابل أي صورة فلكية وأي برج سماوي.
ثم أن القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أول الآية إلى إحدى عادات الجاهليين الخرافية في مورد الحج ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ذهب كثير من المفسرين إلى أن الناس في زمن الجاهلية كانوا يمتنعون لدى لبسهم ثياب الإحرام من الدخول في بيوتهم من أبوابها ويعتقدون بحرمة هذا العمل، ولهذا السبب فإنهم كانوا يفتحون كُوّه وثقب خلف البيوت لكي يدخلوا بيوتهم منها عند إحرامهم، وكانوا يعتقدون أن هذا العمل صحيح وجيد، لأنه بمعنى ترك العادة، والإحرام يعني مجموعة من تروك العادات فيكتمل كذلك بترك هذه العادة.
ويرى بعضهم أن هذا العمل كان بسبب أنهم لا يستظلّون بسقف في حال الإحرام، ولذلك فإن المرور من خلال ثقب الحائط بالقياس مع دخول الدار من الباب يكون أفضل، ولكن القرآن يُصرّح لهم أن الخير والبر في التقوى لا في العادات والرسوم الخرافية، ويأمر بعد ذلك فورا بأن يدخلوا بيوتهم من أبوابها.
وهذه الآية لها معنى أوسع وأشمل، وذلك أن الإنسان لابد له عندما يُقدِم على أيِّ عمل من الأعمال سواء كان دينيا أم دنيويا لابد له من أن يَرِدَه من الطريق الصحيح لا من الطرق المنحرفة.
وعندما يبحث الإنسان عن الخيرات والبر لابد أن يتوجه صوب أهله ولا يطلبه من غير أهله، حيث ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) عن الإمام الباقر (عليه السلام) (آل محمد أبواب الله وسبله والدعاة إلى الجنة والقادة إليها والأدلاء عليها إلى يوم القيامة).
مجمع البيان: في تفسير الآية هذا الحديث قد يشير إلى أحد مصاديق المفهوم الكلي للآية لأنه يقول: إن عليكم أن تردوا في جميع أموركم الدينية عن الطريق الصحيح لها، يعني أهل بيت النبوة الذين هم طبقا لحديث الثقلين قرين القرآن، ولذلك يمكنكم أن تأخذوا معارفكم الدينية منهم، لأن الوحي الإلهي نزل في بيوتهم، فهم أهل بيت الوحي وصنائع القرآن وثمار تربيته.
جملة (لَيْسَ الْبِرُّ) يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة أخرى أيضا، وهي أن سؤالكم عن الأهلة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة من يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثم يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.
ضمنا يجب الالتفات إلى هذه النكتة في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى) أن وجود المتقين بمثابة الينابيع المستفيضة بالخيرات، بحيث أنهم قد يطلق عليهم كلمة (البر) نفسه (وذهب البعض إلى وجود حذف في الجملة وتقديره: لكن البر من اتقى ذلك)[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (56)