بعد أن تجرأوا على مخالفة أحكام الله تعالى وغصبوا الخلافة وزحزحوها عن قواعدها، توجّه الجهاز الحاكم إلى تشييد أركان حكومته، ووفقاً لبعض الأخبار فقد جاء الخليفتان الأوّل والثاني إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلين: (ما هو حكم الأموال التي كانت في يد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى حين وفاته)؟ أجابهما (عليه السلام): بأنّه ينبغي أن تحكما فيها بما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحكم فيها أثناء حياته، قالا: (فماذا عن فدك)، - وكانت فدك من جملة هذه الأموال التي وهبها النبيّ (صلى الله عليه وآله) للزهراء(عليها السلام)، وجميع الناس كانوا يعلمون بهذا الأمر وحتّى بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان عامل الزهراء (عليها السلام) ووكيلها هو الذي يشتغل في رعاية شؤون هذه الأرض- أجابهما أمير المؤمنين(عليه السلام) إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو الذي وهبها للزهراء وهي لها، قالا: (كلا، إنّها لبيت المال ولابدّ من إرجاعها إليه)! فذهبا وأخرجا عامل الزهراء (عليها السلام) من الأرض بعد أن كانت لسنوات تملكها وتحت تصرفها في حياة أبيها (صلى الله عليه وآله) وبعد استشهاده، وتمّ الاستيلاء عليها.
وإخراج عامل الزهراء (عليها السلام) بهذه الطريقة ومن دون إبلاغها يعد مخالفا للعرف والشرع، وقد ذُكِر مجيؤها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتب كبار علماء العامة، منهم الحافظ الطبراني (المتوفى سنة 360هـ) ، وكذلك رواه الحافظ الهيثمي (المتوفى سنة 807هـ) في كتابه مجمع الزوائد، واللفظ للأول قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) جئت أنا وأبو بكر إلى علي (عليه السلام) فقلنا ما تقول فيما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله وبما ترك، قال: فقلت والذي بخيبر؟ قال: والذي بخيبر، قلت: والذي بفدك؟ فقال: والذي بفدك. قلت: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا!! .
وهل هذا إلا التعنت والانحراف عن جادة الصواب! وهل هذا إلا الظلم بعينه! وأنت ترى أن هذا الفعل لو صدر بحق امرأة من سواد الناس فضلا عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) من غير سبب شرعي، فإن فاعله لا يليق بالرئاسة الدنيوية فضلا عن الخلافة الإلهية، وهذا الظلم تجاه الزهراء (عليها السلام) إنما يكشف خبث السريرة وفساد العقيدة وعدم التدين بالإسلام، ومن هذا وغيره يبطل أصل خلافة القوم.
فيا ترى هل إن مصلحة المسلمين انحصرت فقط في انتزاع فدك، دون انتزاع ما في يد بعض الصحابة من أعطيات النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد روى البلاذري ما لفظه: (وأقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أرض بني النضير أبا بكر وعبد الرحمن بن عوف وأبا دجانة سماك بن خرشة الساعدي وغيرهم، وكان أمر بني النضير في سنة أربع من الهجرة)[1].
وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عباس قال: أقطع النبي(صلى الله عليه وآله)، بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها[2][3].
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقطع لأناس من مزينة أو جهينة أرضا فلم يعمروها فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهنيون أو المزنيون إلى عمر بن الخطاب فقال: لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) [4].
ومنها ما أخرجه الطبراني والبيهقي: أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما قدم المدينة أقطع الدور وأقطع ابن مسعود فيمن أقطع[5]، قال الشوكاني: وإسناده قوي[6].
وفي الصحيح من حديث أسماء بنت أبي بكر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) أقطع الزبير أرضاً من أموال بني النضير بخيبر[7].
أقول: فلماذا لم تصادر هذه الاقطاعات من قبل السلطة الحاكمة آنذاك؟! ولماذا لم يطلبوا بينة منهم كما طوُلبت الزهراء (عليها السلام)؟!!
بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك فقد نقل أهل التاريخ والسِيَر أن أبا بكر أمضى دعاوى من ادعى أن له حقا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يطالبه بأية بينة، روى ابن سعد في طبقاته: عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين: مَن كانت له عِدَةٌ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فليأت، فيأتيه رجال فيعطيهم، فجاء أبو بشير المازني فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: يا أبا بشير إذا جاءنا شيء فأتنا فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً فوجدها ألفاً وأربعمائة درهم[8].
فهل يا ترى إن الزهراء (عليها السلام) أقل شأنا من هؤلاء المجهولين أم ماذا؟ لعمري لو ساووها بأبسط الناس لما ظلموها حقها، كيف وهي بنت رسول رب العالمين (صلى الله عليه وآله) وبنت سيدة نساء العالمين، خصوصاً مع تصريح القرآن بطهارة هذه السيدة المظلومة المعصومة، وبوجوب مودّتها، ومع تصريح الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن من آذاها فقد آذى الله، وهي ابنته الوحيدة، وسيدة نساء أهل الجنة، أَولم يشهد المخالف قبل المؤالف بصدقها وفضلها، فقد روى قوله (صلى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها و يؤذيني ما آذاها).[9]
وقوله (صلى الله عليه وآله): (جبرائيل يبلغ سلام الله عز وجل للنبي ولمولودته فاطمة)... (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[10].
[1] فتوح البلدان: ج1، ص18.
[2] الغور: ما انخفض من الأرض، والجلس: ما ارتفع منها.
[3] مسند أحمد: ج1، ص306.
[4] المغني: ج6، ص155.
[5] المعجم الأوسط للطبراني: ج5، ص163.
[6] نيل الأوطار: ج6، ص59.
[7] صحيح البخاري: ج4، ص61.
[8] الطبقات الكبرى: ج2، ص319.
[9] صحيح مسلم: ج7، ص140ط محمد صبيح بمصر.
[10] سورة الصافات: آية 154.