الإمام الصادق (عليه السلام) وأبو حنيفة

دخل أبو حنيفة على الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين(عليهم السلام)، فقال له: يا أبا حنيفة أنت مفتي أهل العراق؟

قال: نعم.

قال: بم تفتيهم؟ قال: بكتاب الله، قال: أفأنت عالم بكتاب الله عز وجل، ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه؟

قال: نعم.

قال: فأخبرني عن قوله تعالى: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آَمِنِينَ) سبأ:18، أي موضع هو؟

قال أبو حنيفة: هو بين مكة والمدينة، فالتفت الإمام الصادق(عليه السلام) إلى جلسائه، فقال: نشدتكم بالله، هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل، وعلى أموالكم من السرقة، فقالوا: اللهم نعم.

قال(عليه السلام): ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلاّ حقّاً، فأخبرني عن قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً) آل عمران: 97، أيُّ موضع هو؟

قال أبو حنيفة: ذلك البيت الحرام، فالتفت الإمام(عليه السلام)‍ إلى جلسائه، فقال لهم: نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟ قالوا: اللهم نعم، فقال(عليه السلام): ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلاّ حقّاً.

فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله عزّ وجلّ، أنا صاحب قياس.

قال الإمام(عليه السلام): فانظر في قياسك إن كنت مَقيساً، أيها أعظم عند الله القتل أم الزنا؟

قال: بل القتل.

فقال(عليه السلام): فكيف رضي الله في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلاّ بأربعة؟ وثم هل الصلاة أفضل أم الصيام؟

قال أبو حنيفة: الصلاة أفضل.

فقال(عليه السلام): فيجب على قياسك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة.

وقال(عليه السلام): البول أقذر أم المني؟

قال أبو حنيفة: البول أقذر.

قال(عليه السلام): يجب على قياسك أنه يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله الغسل عن المني دون البول.

قال أبو حنيفة: إنما أنا صاحب حدُود.

فقال(عليه السلام): فما ترى في رجل أعمى فقأ عينَ صحيحٍ، وقطعَ يدَ رجلٍ، كيف يُقام عليه الحد؟

قال أبو حنيفة: أنا صاحب رأي.

قال(عليه السلام): فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوّج عبده في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا المرأتين في بيت واحد فولدتا غلامين، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك، وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟

قال أبو حنيفة: إنما أنا رجل عالم بمباحث الأنبياء.

قال(عليه السلام): فأخبرني عن قوله تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى دعوة فرعون: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه:44. فلعلّ، منك شك؟

قال: نعم.

قال(عليه السلام): ذلك من الله شك إذ قال: لعله.

قال أبو حنيفة: لا أعلم.

قال الصادق(عليه السلام): يا أبا حنيفة لا تقس فإن أول من قاس إبليس فقال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الأعراف:12. فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار لعرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر.

يا أبا حنيفة: إنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس، ولم يُبن دين الإسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله(صلى الله عليه وآله) صواباً ومن دونه خطأ لأَن الله تعالى قال: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) النساء: 105. ولم يقل لغيره، وتزعم أنك صاحب حدُود ومن أُنزلت عليه أوّلى بعلمها منك، ولو لا أن يقال: دخل على ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء فقس إن كنت قيّاسا!

قال أبو حنيفة: لا تكلمت بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.

قال الصادق(عليه السلام): كلا إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك غيرك من كان قبلك[1].

مجلة اليقين، العدد (34)، الصفحة (8 - 9).

 


[1] كتاب مناظرات في الإمامة للشيخ عبد الله الحسن: ص539.