يقول تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً)[1].
إن من جملة صفات: ـ عباد الرحمن ـ هو التواضع ونفي الكبر والغرور والتعالي، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه للمؤمن: ((...مَشْيُه التَّوَاضُعُ خَاضِعٌ لِرَبِّه بِطَاعَتِه رَاضٍ عَنْه فِي كُلِّ حَالاتِه...))[2].
والتواضع حالة نفسية تظهر في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأن الملكات الأخلاقية تظهر في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث إن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقة ـ من تصرفاته الخارجية ومنها أسلوب مشيته، كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه))[3].
فالمؤمنون متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.
وينبغي الالتفات إلى أن (هَوْن) مصدر، وهو بمعنى الناعم والهادئ المتواضع، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد، يعني أنهم في ما هم عليه كأنهم عين الهدوء والتواضع.
نعم، هؤلاء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، من علامات عبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى في مشيتهم[4].
وليس معنى (يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً) أنهم يمشون متماوتين منكّسي الرؤوس متداعي الأركان متهاوي البنيان، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا مشى تكفّأ تكفّؤاً وكان أحسن الناس مشية وأسكنها.. قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام): ((كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب))[5].
التواضع هو هيئة نفسانية توجب انكسار النفس ومنع الإنسان من أن يرى لذاته مزيّة على الغير بل يتصور نفسه أذلّ من غيره وأخسّ رتبة منه، ثم الإذعان بهذا إذعاناً جازماً لا يشوبه شيء من الشكوك والأوهام، وتلزم ذلك أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر.
وأمير المؤمنين (عليه السلام) يصف المتواضع بقوله: ((ويرى الناس كلهم خيراً منه، وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر))، فالمؤمن يرى الناس كلهم خيراً منه، فمراتب القرب متفاوتة في الزيادة والنقصان، والمؤمن يحتمل أن يكون القرب واللطف في غيره أكمل فلذلك يراه خيراً منه.
وأيضا المؤمن لما فيه من التواضع والتذلل يرى (أنه شرهم في نفسه)، أي: إن المؤمن مبالغة منه في إهانة نفسه وعدم إكرامها يرى نفسه أنه شر الناس، لأنه عارف بعيوبه وعجزه وقصوره لا بعيوب غيره، وهذا الفعل منه ممدوح، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((طوبى لمن ذلّ نفسه))[6]، (وهو تمام الأمر) إذ به تحصل الاستكانة والتضرع والخضوع لله تعالى، والتعري عن لباس التكبر، والتوصل إلى الفناء في الله تعالى.
عن الحسن بن الجهم، قال: سألت الرضا (عليه السلام) فقلت له: ((ما حد التواضع؟ قال: أن تعطي الناس من نفسك ما تحب أن يعطوك مثله))[7].
((قَالَ الرواي عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا(عليه السلام): قُلْتُ له: مَا حَدُّ التَّوَاضُعِ الَّذِي إِذَا فَعَلَه الْعَبْدُ كَانَ مُتَوَاضِعاً؟ فَقَالَ: التَّوَاضُعُ دَرَجَاتٌ مِنْهَا أَنْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِه فَيُنْزِلَهَا مَنْزِلَتَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا مِثْلَ مَا يُؤْتَى إِلَيْه إِنْ رَأَى سَيِّئَةً دَرَأَهَا ـ أي دفعها ـ بِالْحَسَنَةِ كَاظِمُ الْغَيْظِ عَافٍ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))[8].
وأما أسبابه: فهي معرفة عظمة الله وجلاله وكبريائه وقهره وغلبته على جميع المخلوقات ومعرفة نفسه وشدة احتياجه وافتقاره إلى الله تعالى في جميع الأحوال فهو كان في الأصل عدماً ولم يكن شيئاً مذكوراً، ثم خلقه الله سبحانه من تراب ثم من نطفة ثم بدّله من طور إلى طور، حتى جعله بشراً سوياً ثم نقله من صلب الرجل إلى رحم الأُم ثم إلى رحم الدنيا وربّاه صغيراً وكبيراً، ثم يميته ويقبره ويصيّره جيفة منتنة، فتبلى أعضاؤه وتتفرق أجزاؤه حتى يصير تراباً كما كان أول أمره ثم إذا شاء أنشره فيقوم من مرقده ناظراً إلى أحوال القيامة الموحشة، فإذا عرف هذه الأُمور حق المعرفة علم أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً وأنه مضطر ذليلُ عبدُ مملوكُ لا يقدر على شيء وأنه متلبس بالعجز والانكسار ومتصف بالمسكنة والافتقار وأنه بعيد عن الاتصاف بالبطر والكبرياء والفخر والخيلاء.
إن التواضع هو انكسار القلب للربّ جلّ وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم عليه، وكلما رأى إنسانا يقول: هو خير مني.. فشره ظاهر، وخيره باطن والبواطن مستورة علينا، فمن أين نعلم بواطن العباد؟ ولو فرضنا جدلاً أنك علمت باطن الشخص، ورأيت باطنه، ولكن من أين تعلم باطنك؟.. إن الذين يعرفون أنفسهم هم القلائل.. ولو عرفت باطنك وباطنه، ورأيت التميّز، وحكمت بتفوقك، فمن أين لك العلم بعواقب الأمور؟.. فأنت ترى الفعل، ولا ترى المستقبل، وعند ساعة الموت لا يعلم بم يُختم للإنسان.. فالمؤمن ليس له أي حكم على العباد، فيجب أن يحتمل أن هذا الإنسان على خير.
وأما لوازمه فهي كثيرة جداً لأن تلك الحقيقة إذ انبعثت من القلب وتمثلت في الأعضاء والجوارح تنبت منها أنواع الفضائل، منها العبادات القلبية والبدنية كالذكر والصوم والصلاة ونحوها، ومنها مجالسة الفقراء ومحبتهم ومؤاكلتهم وتقديمهم في الطرق والمجالس، ومنها لين القول وحسن المعاشرة والرفق بذوي الحاجات، ومنها الشكر عند حدوث النعمة ودفع النقمة، ومنها الابتداء بالسلام وترك المراء إلى غير ذلك.
للتواضع مصاديق كثيرة ذُكرت في الروايات منها: ما ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) قَالَ: ((مِنَ التَّوَاضُعِ أَنْ تَرْضَى بِالْمَجْلِسِ دُونَ الْمَجْلِسِ وأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ تَلْقَى وأَنْ تَتْرُكَ الْمِرَاءَ وإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً وأَنْ لَا تُحِبَّ أَنْ تُحْمَدَ عَلَى التَّقْوَى))[9].
ومنها: شرب سؤر المؤمن حيث يقول الإمام الرضا (عليه السلام): ((... من شرب من سؤر أخيه المؤمن يريد بذلك التواضع أدخله الله الجنة البتة...))[10].
ومنها: السجود على الأرض كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((السجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عز وجل)) [11].
أنواع التواضع:
عرفنا إن من صفات عبد الرحمن أنه يعيش حالة التذلل، بمعنى حالة الذلة والشفقة في العباد فيما لا يؤوله إلى الوهن.. وعليه فالتواضع نوعان..
1- محمود، وهو ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم.
2- مذموم، وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.
فتواضع المؤمن محمود، حيث إن منشأه ليس الخوف من الطرف المقابل، كتواضع المتملقين للأغنياء، أو تواضع الخائفين للجبارين.. فالمؤمن يلزمه مفارقة التواضع المذموم ولا يفارق التواضع المحمود في الأحوال كلها.
ولكن هنا نكتة يجدر ذكرها وهي أنه لابد في كل أمر من الاعتدال وعدم التفريط أو الإفراط، فإن من الواضح أن التواضع لكل أحد غير صحيح، فإن من الناس من ليس أهلا للتواضع والتكريم، فيكون التواضع له باعثاً لمهانة المتواضع ولغطرسة وسفه المتواضَع له، ولذلك لا يحسن التواضع للأنانيين والانتهازيين والمتعالين على الناس، لأن التواضع لمثل هؤلاء مدعاة للذل والهوان وتشجيع لهم للازدياد في عنجهيتهم وتكبرهم، ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((إذا رأيتم المتواضعين من أُمتي فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم، فإن ذلك لهم مذلة وصغار))[12].
وأجاد الشاعر المتنبي حين قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وان أنت أكرمت اللئيم تمردا
ناهيك في فضله أن يوصي به المولى سبحانه وتعالى حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) ويأمره به حيث قال عز اسمه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[13]، ويعد المتواضعين بالجنة في قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[14].
هذا وقد ورد عن نبينا(صلى الله عليه وآله) حديث شريف لو تأمله كل مسلم يحرص على الفوز بحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقربه يوم القيامة لما ترك التواضع قط، ولحرص على أن تكون جميع حركاته وسكناته متصفة به حيث قال(صلى الله عليه وآله): ((إن أحبكم إليّ وأقربكم مني يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً وأشدكم تواضعاً))[15].
ومن فضيلته أنه جمال العبادة وحلاوتها، فقد قال (صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه ذات مرة: ((مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع))[16].
ومن فضيلته أيضاً أنه يوجب رفعة صاحبه عند الله تعالى، فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((.. مَنْ تَوَاضَعَ لِله رَفَعَه الله ومَنْ تَكَبَّرَ خَفَضَه الله...))[17].
مجلة بيوت المتقين العدد (14)
[1] الفرقان: 63.
[2] الكافي ج2 ص230 ح1.
[3] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص137.
[4] الأمثل ج11 ص304-306.
[5] مستدرك الوسائل ج8 ص238.
[6] نهج البلاغة، أبواب الحكم ح 123.
[7] الأمالي للشيخ الصدوق ص311 ح360.
[8] الكافي ج2 ص121 ح13.
[9] الكافي ج2 ص121 ح6.
[10] مصادقة الأخوان، للشيخ الصدوق ص52 ح1.
[11] من لا يحضره الفقيه ج1 ص272 ح843.
[12] مجموعة ورام، ص209.
[13] سورة الشعراء: 215.
[14] سورة القصص: 83.
[15] الوسائل ج15 ص378 ح17.
[16] تنبيه الخواطر: 1 / 201.
[17] الكافي ج2 ص121 ح3.