وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) على قبره قائلاً: (رحم الله خبَاباً، فلقد أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً).
من الصادقين والشهداء في طريق صدقهم في حب النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الشهيد المظلوم عبد الله بن خبّاب بن الأرت رحمه الله. هذا الشهيد العزيز والمجاهد الشريف هو من خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
نسبه:
هو خبّاب بن الأرتّ بن جندلة التميمي، ويقال خزاعي أبو عبد الله سُبِي في الجاهلية فبيع في مكة فكان مولى أم أنمار الخزاعية.
حاله في الجاهلية:
دفعت أم أنمار غلامها إلى أحد الحدادين في مكة ليعلمه صناعة السيوف فما أسرع أن أتقن الغلام الصنعة وتمكن منها أحسن تمكن. ولما اشتد ساعد خبّاب وصلب عوده استأجرت أم أنمار دكاناً واشترت له عدة، وجعلت تستثمر مهارته في صنع السيوف. لم يمض غير قليل على خباب حتى أشتهر في مكة وجعل الناس يقبلون على شراء سيوفه، لما كان يتحلّى به من الأمانة والصدق وإتقان الصنعة.
فقد كان خبّاب على الرغم من حداثة سنه يتحلّى بعقل الكلمة وحكمة الشيوخ. وكان إذا ما فرغ من عمله يفكر في هذا المجتمع الجاهلي الذي غرق في الفساد من أخمص قدميه إلى قمّة رأسه، ويقول ما ران على حياة العرب من جهالة وضلالة عمياء، وكان هو نفسه أحد ضحاياها، وكان يقول لابد لهذا الليل من أخر.. وكان يتمنى أن تمتد به الحياة ليرى بعينه مصرع الظلام ومولد النور..
ثباته على الإسلام وصبره:
ومع كل ما تعرض له من التعذيب الشديد على يد مشركي مكة، فإنه ثبت على الحق كالجبال، ورفض جميع أنواع الإغراءات ليرتد عن دينه. يروي البخاري بسنده عن خبّاب قال: كنت قَيْنًا بمكة، فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفًا، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت: لا أكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله) حتى يميتك الله ثم يحييك، قال: إذا أماتني الله ثم بعثني ولي مال وولد، فأنزل الله: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)[1]. [2]
إسلامه:
لم يطل انتظار خبّاب كثيراً فقد ترامى إليه أن خيطاً من نور قد تألق من فم فتى من خيرة بني هاشم يدعى محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله)، فمضى إليه وسمع منه فغمره سناه، فبسط يده إليه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكان سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض حتى قيل مضى على خبّاب وقت وهو سُدُس الإسلام.
أثر الرسول (صلى الله عليه وآله) في تربيته:
حدَّثنَا بَيانٌ وإسْمَاعِيلُ قالاَ: (سَمِعْنَا قَيْسَاً يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابَاً يَقُولُ أتَيْتُ النَّبيَّ (صلى الله عليه وآله) وهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَهُ وهْوَ في ظِلِّ الكَعْبَةِ وقَدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: ألاَ تَدْعُو الله، فقَعَدَ وهْوَ مُحْمَرٌّ وجْهُهُ، فَقالَ: لَقَدْ كانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحمٍ أوْ عَصَبٍ ما يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عنْ دِينِهِ، ويُوضَعُ المِنْشَارُ علَى مَفْرِقِ رأسِهِ فيُشَقُّ باثْنَيْنِ ما يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عنْ دِينِهِ، ولَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخافُ إلاَّ الله)[3].
خباب بن الأرت مع الرسول(صلى الله عليه وآله):
عن عبد الله بن خباب بن الأَرَتّ عن أبيه وكان قد شهد بدراً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنه راقب رسول الله(صلى الله عليه وآله) الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سَلَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من صلاته، جاءه خبّاب فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بأبي أنت وأمي، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أجل، إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر علينا عدوًّا من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعًا فمنعنيها)[4].
قتل الخوارج لعبد الله بن خباب:
قال أبن الأثير: قيل: لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه فافزعوه وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا له: افزعناك؟ قال: نعم، قالوا: لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك حديثاً سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنفعنا به فقال: حدّثني أبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها مؤمناً ويصبح كافراً ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، قالوا: لهذا الحديث سألناك فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً، قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها، قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحداً.
فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل مواقير، فسقطت منه رطبة، فأخذها أحدهم فتركها في فيه فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولقد آمنتموني قلتم: لا روع عليك فاضجعوه فذبحوه، فسأل دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة إلا تتقون الله فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان الصيداوية.
فلما بلغ علياً (عليه السلام) قتْلهم عبد الله بن خبّاب واعتراضهم الناس، بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به إليه ولا يكتمه، فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه، وأتى علياً (عليه السلام) الخبر والناس معه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام)[5].
مجلة بيوت المتقين العدد (40)