يُعد مسير فدك التاريخي من عجائب التاريخ الإسلامي، فقد كان لكل من الخلفاء عبر العصور موقفاً خاصاً منها، فمنهم مَن قبضها، ومنهم مَن ردّها إلى أصحابها، وطال الأمد بها على هذا الحال إلى أن سبخت الأرض وضاع منها نعيمها، وللتعرّف على فصول النزاع التي مرت به هذه القرية العامرة، يكفينا الوقوف على النقاط التالية:
١- انتقلت (فدك) كما نعلم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد سقوط خيبر؛ لأنّه قَبِل الصلح مع اليهود وطبقاً للآية الشريفة: (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ...[1])، فقد صارت كلها ملكاً شخصياً مختصاً برسول الله (صلى الله عليه وآله).
٢- طبقاً للوثائق التاريخية المعتبرة فإنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) منح وبأمر إلهي فدكاً إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حياته، وذلك عندما نزلت الآية الشريفة: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)، بهذه الصورة أصبحت في حيازة ابنة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله).
٣- اغتُصبت هذه الأرض المعمورة في زمن الخليفة الأَوّل، وضُمَّت إلى أموال الدولة، وقد سعى هؤلاء إلى الحفاظ على هذا الوضع.
٤- ظل الوضع على هذا الحال إلى أن آلت الخلافة إلى الخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز)، الذي كان أقرب لأهل البيت (عليهم السلام) من غيره، حيث نقرأ في شرح نهج البلاغة: لمّا وُلّي عمر بن عبد العزيز ردَّ فدكا على وُلد فاطمة، وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر عمرو بن حزم يأمره بذلك، فكتب إليه:
(فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في وُلد فاطمة من عليٍّ (عليهما السلام) والسلام)[2]. بهذا الشكل صارت (فدك) بيد أبناء فاطمة (عليها السلام)، بعد أن دارت دورةً كبيرة تنقّلت فيها بين هذا وذاك.
٥- لم يمضِ وقت طويل حتى غصبها الخليفة الأموي (يزيد بن عبد الملك) ثانيةً.
٦- بعد أن ولّى الأمويون واستخلفهم العباسيون، أعاد الخليفة العباسي المعروف (أبو العباس السفاح) فدكاً إلى (عبد الله بن الحسن بن علي)، باعتباره ممثّل بني فاطمة (عليها السلام).
٧- بعدها مباشرةً قام أبو جعفر العباسي بانتزاعها من بني الحسن؛ لأنّهم ثاروا على بني العباس.
٨- أعاد الخليفة المهدي العباسي ابن (أبو جعفر) فدكاً إلى أبناء فاطمة (عليها السلام).
٩- قام الخليفة العباسي موسى الهادي بغصبها ثانيةً، وظل الوضع على هذا الحال في زمن هارون العباسي.
١٠- ولكي يُظهر علاقته الشديدة بأهل بيت الرسول (عليهم السلام)، وأبناء عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام)، قام المأمون برد فدك إلى وُلد فاطمة (عليها السلام).
لقد ورد في التاريخ أنّ المأمون كتب إلى واليه على المدينة (قثم بن جعفر) قائلاً: إنّه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى ابنته فاطمة فدكاً، وتصدّق عليها بها، وإنَّ ذلك كان أمراً ظاهراً معروفاً عند آله (عليهم السلام)، ثمّ لم تزل فاطمة تدّعي منه بما هي أَولى مَن صدق عليه، وإنّه قد رأى ردها إلى ورثتها وتسليمها إلى (محمّد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي)... و(محمّد بن عبد الله بن الحسين)... ليقوما بها لأهلهما.
يقول ابن أبى الحديد: (جلس المأمون للمظالم، فأَوّل رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى، وقال للذي على رأسه: نادِ أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخُفّ تعزي، فتقدم فجعل يناظره في فدك، والمأمون يحتجُّ عليه، والمأمور يحتج على المأمون، ثمَّ أمر أن يسجّل لهم بها، فكتب السجل وقرئ عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أوّلها:
أصْبَحَ وَجْهُ الزّمانِ قدْ ضَحِكَا بِـرَدِّ مَأمُونَ هاشِماً فَدَكاً[3].
وقد ذكر مؤلّف كتاب (فدك)، أنّ المأمون اعتمد على رواية أبي سعيد الخدري بإعطاء النبي (صلى الله عليه وآله) فدكاً لفاطمة، فقام برد فدك على أبنائها[4].
١١- أمّا (المتوكل العباسي)؛ وبسبب الحقد الذي كان يضمره لأهل بيت النبوة (عليهم السلام)، قام بغصب فدك من أبناء فاطمة (عليها السلام) مجدّداً.
12- أصدر ابن المتوكل وهو (المنتصر) أمراً برد فدك إلى الحسن والحسين (عليهما السلام) ثانيةً.
ممّا لا شك فيه أنّ تنقّل الأرض من يد لأخرى، والتلاعب بأمرها في كل يوم من قِبل السياسيين الحاقدين، سيسبّب هلاكها وخرابها بسرعة، وهو عين ما حدث لفدك، فسرعان ما خربت عمارتها، وتيبّست أشجارها، وجفت ثمارها!
على كل حال فإنّ هذه الانتقالات التي حصلت إنّما تدل على حقيقة محسوسة ملموسة، أَلا وهي أنَّ الخلفاء كانوا شديدي الحساسية تجاه فدك، فتصرّف وموقف كلّ منهم إنّما هو نابع ممّا تقتضيه مصلحته السياسية.
وكل ذلك تأكيد على ما ذكرناه من أنّ لغصب فدك بعداً سياسياً أهم من بعدها الاقتصادي، فمصلحتهم كانت تقتضي منهم، أن يعملوا على إبعاد أهل بيت الرسالة (عليهم السلام) عن المجتمع الإسلامي، والتقليل من شأنهم ومكانتهم، وإظهار العداء لهم تارةً، والتقرّب والتودّد إليهم تارةً أخرى عن طريق ردِّ فدك إليهم، والذي تكرر لعدة مرات عبر التاريخ.
إنّ أهمية فدك في أذهان عامة المسلمين محدودة، فما يذكره التاريخ هو أنّها لم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل، وكان فيها إحدى عشرة نخلةً غرسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجّاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل[5].