تربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إِلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أَشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم وأُمم الأرض، وكان ذلك أَهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.
لقد تغذت حفيدة الرسول بجوهر الإِيمان وواقع الإِسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أَظفارها، وتجرّعت أَقسى وأَمرّ أَلوان المصائب، كلّ ذلك من أَجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.
إِنّ الإِيمان الوثيق بالله تعالى، والانقطاع الكامل إِليه كانا من ذاتيات الأُسرة النبوية ومن أَبرز خصائصهم، أَلم يقل سيد العترة الطاهرة الإِمام أَمير المؤمنين(عليه السلام) في دعائه: (إِلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أَهلاً للعبادة فعبدتك)[1]؟ وهو القائل: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)[2].
أَما سيّد شباب أَهل الجنة الإِمام الحسين(عليه السلام)، فقد أَخلص لله تعالى كأَعظم ما يكون الإِخلاص، وذاب في محبته، وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أَبنائه وأَخوته وأَبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأَزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتُحن بما لم يُمتحن به أَحدٌ من أَنبياء الله وأَوليائه، كل ذلك في سبيل الله تعالى، فقد رأى أَهل بيته وأَصحابه الممجدين صرعى، ونظر إِلى حرائر النبوة وعقائل الوحي، وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أَحاطت به أَرجاس البشرية، وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ليتقرّبوا بقتله إِلى سيّدهم ابن مرجانة، لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: (اللهمَّ إِن هذا فيك قليل)[3]، ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه، قال: (هَوّنَ مَا نَزَلَ بي، أَنّهُ بعينِ اللهِ)[4].
أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له!
أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله!
وكانت حفيدة الرسول زَيْنَب(سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، وهو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه: (اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان)[5].
إِنّ الإِنسانية تنحني إِجلالاً وخضوعاً أَمام هذا الإِيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أَخيها.
لقد تضرعت بطلة الإِسلام بخشوع إِلى الله تعالى أَن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله).
فأَيّ إِيمان يماثل هذا الإِيمان؟!
وأَيّ تبتّل إِلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟!
لقد أَظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأَظهرت الواقع الإِسلامي، وأَنارت السبيل أَمام كلّ مصلح اجتماعي، وأَنّ كلّ تضحية تُؤدّى للأُمّة يجب أَن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأَيّ غرض من أَغراض الدنيا.
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الأَلباب أَنّها تهجدت لله تعالى حتى في ليلة الحادي عشر من المحرم، راضية ومسلمة بقضاء لله تعالى على عظيم بلاءه، ما دام في ذلك خدمة للإِسلام ورفعة له.
لقد تهجدت لله تعالى في أَقسى ليلة وأَفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أَيّ أَحدٍ من بني الإِنسان، فقد أَحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أَبناء الرسول وأَصحابهم أَمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أَحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله(صلى الله عليه وآله) من حُلي، وما عندهنّ من أَمتعة وهُنَّ يعجنَّ بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهن من الأَسر والذلّ إِلى غير ذلك من المآسي التي أَحاطت بحفيدة الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ وهي شاكرة لله على هذه النعمة التي أَضفاها عليها وعلى أَخيها.
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإِيمان العلوي أَحقّ بالبقاء، وأَجدر بالخلود في هذا الكوكب الذي نعيش فيه.
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج41، ص14.
[2] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج1، ص317.
[3] حياة الإمام الحسين(عليه السلام)، الشيخ باقر القرشي: ج 3، ص 284.
[4] مقتل الحسين، للمقرم: ص343، اللهوف على قتلى الطفوف، السيد رضي الدين الحلي: ص115.
[5] حياة الإمام الحسين(عليه السلام)، الشيخ باقر القرشي: ج3، ص304.