الإمام الحسين (عليه السلام) نهر متدفق من العطاء ترتوي منه كل الأجيال. وعاشوراء مدرسة للإباء والصمود يرتادها عشاق الحرية والعدل في كل زمان.
إن الاحتفاء بذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) يوفر للأمة أعظم الفرص لتجديد العهد بقيم رسالتها المجيدة، ولتأكيد هويتها الأصيلة في نفوس أبنائها الناشئين، من هنا يتحمل خطباء عاشوراء مسؤولية كبيرة في تفعيل رسالة هذه المناسبة.
قال تعالى: (...وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[1].
من المتيقن أن كل الأيام هي أيام الله، كما أن كل الأماكن متعلقة بالله جلّ وعلا، وإذا كانت هناك نقطة خاصة تسمى (بيت الله) فذلك بدليل ميزاتها، كذلك أيام الله تشير إلى أيام مميزة لها خصائص منقطعة النظير، لا نستطيع أن نجعل هذه العبارة البليغة والواضحة محدودة، فأيام الله هي جميع الأيام العظيمة في تاريخ الإنسانية، فكل يوم سطعت فيه الأوامر الإلهية وجعلت بقية الأمور تابعة لها، هي من أيام الله، وكل يوم يفتح فيه فصل جديد من حياة الناس فيه درس وعبرة، أو ظهور نبي فيه، أو سقوط جبار وفرعون - أو كل طاغ - ومحوه من الوجود. خلاصة القول: كل يوم يعمل فيه بالحق والعدالة ويقع فيه الظلم وتطفئ فيه بدعة، هو من أيام الله.
عاشوراء نموذجاً:
في تاريخنا الإسلامي وقائع لها أهمية، ومنعطفات تشكّل لحظات مصيرية في تاريخ الأمة، وتؤثّر على وجدانها وثقافتها، وعلى واقعها الاجتماعي والسياسي، هذه الأحداث يمكن أن تكون مصداقاً لعنوان «أيام الله» الوارد في القرآن الكريم.
ويمكننا بكل ثقة أن نَعُدَّ (يوم عاشوراء) مصداقاً بارزاً من بين تلك الأحداث، وذلك لما تحفل به هذه الحادثة من دروس وعبر وقيم للأمة وجماهيرها الواسعة.
ففي الحقيقة أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان ينظر إلى أنّ هناك منهجاً انحرافيّاً أُريد أن يتأصّل في المجتمع من قِبل بني أُميّة، ليكون بديلاً عن منهج الأنبياء والأوصياء لأنّ السلطة الحاكمة أرادت أن يكون دين الناس هو ما يراه الحاكم ويقرّره؛ ليصبح هو العرف السائد في المجتمع، فنجد أنّ الشامي يصاب بالذهول عندما يسمع أنّ عليّاً كان يصلّي أو أنّ هنالك مَن هو أقرب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) من بني أُميّة، فكلّ ذلك انتهى مع أوّل قطرة دم سقت أرض كربلاء، لتعلن الثورة الحقيقيّة بوجه هذا المنهج ومن أسّسه، لتبقى مقوّمات المنهج الحضاري هو العرف المتأصّل في المجتمع، والذي تتفاعل معه الأجيال، لتدوّي كلمات الإمام (عليه السلام) آفاق الدنيا، وتحرّر الإنسان من عبوديّة الطاغوت بسبل الإصلاح الحسيني (... إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي...)[2]، وهذا ما أكّده سيّد الساجدين (عليه السلام) في رّده على مقولة إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله عندما قال له: يا عليّ بن الحسين، من غلب؟ وهو يغطّي رأسه، وهو في المحمل، فأجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً: (إذا أردت أن تعلم مَن غلب ودخل وقت الصلاة فأذّن ثمّ أقم )[3] .
في أحيان كثيرة بل في معظم الأحيان يتلاشى مفعول الخطب والقصائد البليغة، ويبقى دم الشهيد هو وحده المحرّك باتجّاه أسمى النهضات، فماذا لو كان هذا الشهيد بحجم الحسين بن علي ( عليه السلام ) ؟.
لا زال الكلام حول القضية الحسينية (عاشوراء) لما تحمل من دروس وعبر لكل الأجيال والأحرار والشرفاء بل لكل الانسانية، فهي صرخة المظلومين وانشودة الأحرار والثوار في العالم.
أهمية التذكير بأيام الله:
التذكير بالأيام المفصلية في حياة كل أمّة أهمية عظيمة تنطبع على واقع الأمة ومستقبلها، وذلك:
1. من أجل أن ترتبط المجتمعات البشرية بتاريخها، وتستفيد من التجارب والدروس والعبر التي حصلت في تلك الوقائع والأحداث السابقة، وإلاّ لو لم يكن هذا التركيز لكانت معرفة تلك الوقائع خاصّة بأولئك المعنيين بأمور التاريخ والأبحاث التاريخية فقط.
لذلك فإن إعلانها والتذكير بها وطرحها بشِكْل عام يلفت أنظار الجميع، وبالتالي يستفيد الجميع من عبرها وتجاربها، كما أن ذلك يساعد على حفظ الهوية الدينية والثقافية والوطنية لكل مجتمع.
2. ومن ناحية ثانية تكون إقامة ذكرى هذه الأحداث تخليداً لمن قام بتحقيقها، فالبطولات التي تأسست عليها حضارات الأمم والشعوب يقف وراءها أبطال، تكون هذه الاحتفالات تخليداً لذكراهم، وتلمُّساً لمواقع البطولة والتميّز لدى هؤلاء الأفراد أو هذه المجموعات.
ماذا تمثّل عاشوراء:
عاشوراء كواقعة من أهم الأحداث التي وقعت في تاريخ الأمة الإسلامية تمثّل لنا أمرين مهمّين، هما:
1. عظمة الموقف المبدئي الذي وقفه سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)، إذ كانوا قلّة قليلة، ولكنهم ضربوا أروع الأمثلة في الصمود والثبات، والالتزام بالقيم، والدفاع عن المبادئ، والاعتراض على الظلم والفساد والانحراف. ونحن حينما نتذكّر عاشوراء إنما نتذكّر هذه المواقف العظيمة السامية الرائعة.
2. بشاعة الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السلام) وانتهاك حرمات الله في ذلك اليوم.
ولا شك أنه ليست هناك ظلامة أو مصيبة بمستوى الظلامات التي حلت على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وبمستوى المآسي والظلامات التي حصلت يوم عاشوراء؛ ولذلك نحن نخلد هذه المناسبة، وهذه الظلامة التي وقعت على من وقعت على أحب الناس وأعز الناس لقلب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
الحسين (عليه السلام) ملك القلوب:
الإمام الحسين (عليه السلام) سيطر وهيمن على القلوب، حتّى إنه ليمكن القول إنه ليست هناك شخصية تجيش لها المشاعر والعواطف كشخصية أبي عبد الحسين (عليه السلام)، ونحن في شهر صفر الخير حيث المسيرة المليونية في اربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) يتوافد محبي سيد الشهداء من كل بقاء العالم لإحياء هذه الشعيرة التي اذهلت العالم جميعاً.
نحن نَعُدُّ إقامة ذكرى الاربعين ليس مجرّد إثارة للعواطف والمشاعر، أو اجترار للكآبة والحزن، وإنما نحيي هذه الذكرى لنستلهم منها الدروس والعبر والمبادئ والقيم التي جسدها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته واصحابه (رضي الله عنهم) يوم عاشوراء.
فالإمام الحسين وأصحابه إنما جاهدوا من أجل بقاء الدين وقيم الإسلام، وليس من أجل أطماع وأغراض دنيوية، يقول الإمام الحسين (عليه السلام) في سبب خروجه وحركته: (إني لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت أطلب الصلاح في أمة جدي محمد أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أسير بسيرة جدي وسيرة أبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق وهو أحكم الحاكمين)[4].
ولذلك علينا أن نخرج من أجواء مسيرة الاربعين بهذه الروحية، وبعزم وتصميم على الالتزام بتعاليم الدين، والاجتناب عن المعاصي، والتوبة إلى الله تعالى والمواظبة على أداء الصلوات وجميع الواجبات الأخرى.