الإسراء والمعراج

من المعروف والمشهور بين علماء الإسلام أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما كان في مكّة أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن هناك عُرج به إلى السماء ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات، ثمّ عاد (صلى الله عليه وآله) في نفس الليلة إلى مكّة المكرمة.

المعراج في القرآن والحديث:

في كتاب الله سورتان تتحدثان عن الاسراء والمعراج:

السورة الأولى هي سورة الإسراء، وقد أشارت إلى القسم الأوّل من سفر الرسول (صلى الله عليه وآله) (أي أشارت لإسراءه (صلى الله عليه وآله) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى). قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [1].

السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة النجم التي تحدثت عنهُ في ستِ آيات هي: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)[2].

تاريخ وقوع الاسراء والمعراج:

هناك اختلافات بين المؤرّخين المسلمين حول تاريخ وقوع الإسراء والمعراج، إذ يقول البعض: أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، والبعض يقول: إنَّه عرج به (صلى الله عليه وآله) في (17) من شهر رمضان من السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال: إنَّ المعراج وقع في أوائل البعثة. ولكن في كل الأحوال، فإنَّ الاختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة. النّبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.

  وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد أُشير إليها في الآية من سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى...)[3].

تقول بعض الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله): (نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل فصلّى بها)[4].

كما صلّى أيضاً في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إمامهم في الصلاة، ثمّ بدأ المعراج إلى السماوات السبع فجابهنّ سماءً بعد سماء وواجه في كلّ سماء مشاهد جديدة، فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها، والجنّة وأهلها في بعضها، والنار وأهلها في بعضها، وحمل من كلّ في خاطره وروحه ذكريات قيّمة، وشاهد في عجائب كلّ واحدة منها رمزاً من رموز عالم الوجود وسرّاً من أسراره، وبعد عودته ذكرها لأمته صراحةً أحياناً وبالكناية أو المجاز أحياناً، وكان يستلهم منها لتربية أمّته وتعليمه بكثرة.

وهذا الأمر يدلّ على أنّ واحداً من أهداف هذا السفر السماوي الاستفادة من النتائج العرفانيّة والتربوية لهذه المشاهدات، والتعبير القرآني الغزير: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)[5] يمكن أن يكون إشارة إجمالية لجميع الأمور.

ربما سائل يسأل ويقول: كيف تمّ كلّ هذا السفر الطويل وهذه المشاهدات العجيبة والمتنوّعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة، بل في جزء منها؟!

ولكن يتّضح الجواب على السؤال بملاحظة أنّ سفر المعراج لم يكن سفراً بسيطاً كالمعتاد حتّى يقاس بالمعايير المعتادة، فلا السفر كان طبيعياً ولا وسيلته وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة والصغيرة على كرتنا الأرضيّة فكلّ شيء كان في المعراج خارقاً للعادة، وكان وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.

فبناءً على هذا لا مجال للعجب أن تقع كلّ هذه الأمور بمقياس ليلة أو أقل من ليلة من مقاييس الكرة الأرضيّة الزمانية.

هل كان المعراج جسدياً أم روحياً؟

إنّ ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإسراء، وكذلك سورة النجم تدلل على وقوع المعراج في اليقظة، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإسلام من الشيعة والسنّة.

وتشهد التواريخ الإسلامية أيضاً على صدق هذا الموضوع، حيث نقرأ في التأريخ أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عندما تحدث بها الرّسول (صلى الله عليه وآله)، واتخذوها ذريعة للاستهزاء به، ممّا يدل بوضوح على أن الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبداً، وإلاّ لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.

أما ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها)[6]، أو عن عائشة أنّه: (والله ما فُقِدَ جسد رسول الله ولكن عرج بروحه...)[7]، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي، لإخماد الضجة التي أثيرت حول قضية المعراج.

هدف المعراج:

إنّ هدف المعراج لم يكن تجوالاً للرّسول (صلى الله عليه وآله) في السماوات للقاء الله كما يعتقد السذج، وكما نقل بعض العلماء الغربيين لجهلهم بموضوعه أو لمحاولتهم تحريف الإسلام وتشويه صورته أمام الآخرين، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد، ص120)، (بلغ محمد في سفر معراجه إلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم الله، ويفهم أنّ الله منهمك في تدوين حساب البشر، ومع أنّه كان يسمع صوت قلم الله إلاّ أنّه لم يكن يراه؛ لأنّ أحداً لا يستطيع رؤية الله وإن كان رسولاً).

وهذا يُظهر أن القلم كان من النوع الخشبي الذي يهتز ويولد أصواتاً عند حركته على الورق، وأمثال هذه الخرافات والأوهام.

كلا، فالهدف كان تشرف الملائكة وسكان السماوات وتكريمهم بمشاهدته صلوات الله وسلامه عليه.

ومشاهدة الرسول لأسرار العظمة الإلهية في أرجاء عالم الوجود لا سيما العالم العلوي، ويتضح هذا بشكل صريح في الآية الأولى من سورة الإسراء، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[8]  والآية الثانية من سورة النجم، قال تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)[9].

وهناك رواية أيضاً منقولة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه على سبب المعراج. أنّه قال (عليه السلام): (...إن الله لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزَّ وجلّ أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه...)[10].

فالمعراج لا يعتبر أمراً غير ممكن. وهو بالإضافة إلى ذلك أمر إعجازي خارق للعادة؛ لذلك، إذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإيمان به. وللكلام تتمة.

جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج:

لازال الكلام حول معراج النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)...

إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) سأل الله سبحانه: يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟!

فقال تعالى: (ليس شيء عندي أفضل من التوكل علي والرضا بما قسمت، يا محمّد وجبت محبتي للمتحابين في ووجبت محبتي للمتعاطفين في ووجبت محبتي للمتواصلين في، ووجبت محبتي للمتوكّلين علي وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية...)[11].
وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبة، المحبة الشاملة والواسعة، وأساساً فإنّ عالم الوجود يدور حول هذا المحور.

كما جاء في مكان آخر منه: (... يا أحمد محبتي محبة الفقراء، فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك أُدنِكَ، وبعِّد الأغنياء وبعِّد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبائي...)[12].
أهل الدنيا والآخرة:

وجاء في موضع آخر أيضاً: (... يا أحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟

قال: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرجاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس فيهم، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوئ الناس ويخفون حسناتهم...
قال: يا ربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا.

قال: يا أحمد إنّ عيب أهل الدنيا كثير فيهم، الجهل والحمق، لا يتواصفون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء..)[13].

صفات أهل الجنّة:

ثمّ يتناول الحديث أهل الجنّة فيقول: (... يا أحمد إنَّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم، كثير نفعهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب، كلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين، في أول النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون، دعاؤهم عند الله مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة بهم، الناس (الغَفَلة) عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم (وهمّتهم عالية فلا ينظرون إلاّ إليه) قد صارت الدنيا والآخرة عندهم راحة، يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرّة "ويحيا حياةً جديدة" من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم.

وإن قاموا بين يَدَيَّ كأنّهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلاً لمخلوق، فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيبةً إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أُسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري، ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها، ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني، ولآمرنَّ الجنان فلتزيننّ.

يا أحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي)[14].

 


[1] الإسراء: آية 1.

[2] النجم: 13-18.

[3] الإسراء: آية 1.

[4] بحار الأنوار: ج 18، ص319.

[5] النجم: آية 18.

[6] الكشاف للزمخشري:ج2، ص437.

[7] سنن الدارمي: ج1، ص39. 

[8] الإسراء: آية 1.

[9] النجم: 18.

[10] التوحيد للصدوق: ص175.

[11] بحار الأنوار: ج74، ص21.

[12] بحار الأنوار: ج74، ص23.

[13] بحار الأنوار: ج74، ص24.

[14] بحار الأنوار: ج74، ص24.