جاء في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتقين وحال من كان من شيعته من المؤمنين:
«يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ» فذكر (عليه السلام) أربع صفات للمؤمنين ترتبط بتعاملهم الاجتماعي مع الآخرين، خصوصاً الناس الذين يختلفون معهم ويعادونهم مذهبياً وطائفياً ودينياً، ولا يحتاج المرء إلى برهان ودليل على نفع وثمرة هذه المفاهيم في حياة الإنسان ما دامت قد طرحت في القرآن الكريم بشكل وآخر فالحديث عنها من باب الشرح والتوضيح والتأكيد لا غير.
إن من غرائز النفس الإنسانية أنها تردّ بالمثل على ما يواجهه من إساءات من الآخرين، وهي حالة من حالات حفظ الكرامة والعزّة، لكنّها يحصل بها إفراط غالباً فتتحوّل إلى حالة الثأر والانتقام؛ ولكن الدين الإسلامي يحث على السيطرة على غرائز النفس، خصوصاً تلك التي تقبل الانفلات والتمرّد، فجعل الإيمان لجاماً ومقوداً به تسير النفس بطريق سليم وآمن، فلا مانع من كف النفس عن غريزة الردّ على الإساءة، إذا كان في ذلك صلاح الفرد والمجتمع، بل تلك طريقة وسيرة الأولياء المخلصين، فهم يترفعون عن الانقياد للروح الانتقامية، ويتجاوزون ويعفون عن ظلم الظّلَمَة في الوقت الذي يتمكنون فيه من الانتقام والرد بالمثل، فإنّ هذا بحدِّ ذاته شجاعة؛ لأنّه ينبع من موقع القوّة وليس من قبيل الضعف والاستسلام تجاه الظلم، بل ذلك دليل على جود وكرم المؤمن فضلاً عن المنزلة عند الله يوم القيامة، فقد جاء في الخبر المروي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه قال:
«إِذا كَانَ يَومَ القِيامَةِ نادى مُنادٍ أَينَ أَهلُ الفَضلَ؟ فَيَخرُجُ عُنقٌ مِنَ النّاسِ. فَتَسأَلُهُم المَلائِكَةُ: وَما كَانَ فَضلُكُم؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَصِلُ مَنْ قَطَعَنا ونُعْطى مَنْ حَرَمَنا ونَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنا».
فَيقَولُونَ لَهُم: «صَدَقْتُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ»[1].
فضلاً عن أنّ العفو، بل مقابلة السيئة بالحسنة خلق قرآني أمر الله به نبيّه الكريم في قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)[2].
إلّا أنّنا نجد مع كلّ هذا كثيراً من الناس (مع الأسف الشديد) يطيع نفسه الأمّارة بالسوء في التعامل مع المسيء، فيسارع إلى الردّ والتعامل بالمثل؛ لأنّه يتصوّر أنّه إذا تنازل عن حقّه والتزم بخلق العفو عن الشخص المسيء؛ فإنّه سوف يضيع حقّه بلا مقابل في الدنيا والآخرة، وهذا ما يسبب له الإصرار على العقوبة ويدفعه إلى الانتقام؛ إذ إنه لو منع مانع ما من ردة فعله العنيفة يحصل له شعور بالنقص وعدم الكرامة، ويبقى في قلق نفسي ويشعر بالضعف والمذلة والمهانة، وهذا التفكير الذي يزيّنه الشيطان قد يستولي على أصغر وحدة اجتماعية، فمثلاً الزوجة إذا ظلمها زوجها أحياناً ولم يعطها حقّها تتصوُر أنّه ذهب حقها لغير رجعة ولا يوجد لها مقابل لا في الدنيا ولا في الآخرة، كل هذا يدفعها إلى خلق المشاكل والنزاع والتشاجر مع زوجها، وإذا تطوّر الأمر ربما يؤدّي بها إلى انهيار العلاقة الزوجية، وكل ذلك ناشئ من هذا التصوّر الخاطئ.
والخلاصة: إذا كان الإنسان قادراً على أخذ حقّه ويتنازل عنه فإنّ له الأجر الجزيل والثواب العظيم من عند الله خاصّة؛ ولا فرق في ذلك بين القريب وغيره، قال تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[3].
المصدر: مجلة ولاء الشباب العدد (55)