عقيدتنا في الصحابة

العلمية والموضوعية في بناء الأفكار تدل على ثقافة المفكر ومدى استعماله للعقل وقوانينه وأحكامه، ونعمة استعمال العقل تفوق نعمة وجود العقل نفسه، فما نفع العقل مع تحكم الانفعال وروح العناد والتكبّر على المواقف والآراء؟

ولهذا فإنّ الشيعة لم يخرجوا عن إطار العقل والمنطق في عقيدتهم تجاه الصحابة، بل هم لا يرون فيهم غير حكم الله تعالى في القرآن الكريم أولاً، وما ورد من الأحاديث الصحيحة المروية في كتب أهل السنة قبل الشيعة ثانياً.

كما هو واضح فإنّ رأي القرآن الكريم في الصحابة هو أوسط الآراء وأعدلها، فلا إفراط حتى يقال بعدالتهم جميعاً، بحيث يدخل الجنّة كلّ من رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وسمع حديثه بصورة مجانية، حتّى لو كان قاتلاً وشارباً للخمر ومجاهراً بالفسق، كما لا تفريط بحقّهم جميعاً بحيث يعتبرهم كلهم فسقة ضالين.

والشيعة ساروا على نهج القرآن الكريم في هذا الحكم، فكان رأيهم الوسطية بين الإفراط والتفريط، فأقرّوا وأثبتوا وجود صحابة عدول أكفاء، حملوا عبء الرسالة مع النبي محمد(صلى الله عليه وآله)، فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ونالوا بذلك ما لم ينله غيرهم من العالمين، كما يشهد لذلك قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً، ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ، وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، ... فَلَمَّا رَأَى الله صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه، ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه، ولَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ ولَا اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ»[1].

فهذا الصنف محترم عند الشيعة، ويترضون عليه، لكن توجد أصناف لا يمكن الحكم بعدالتهم وهم:  

أولاً: المنافقون، جاء ذكرهم في قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)[2]، فهؤلاء لا يمكن الترضّي عليهم، ولا الاعتقاد بدخولهم الجنّة، وتصريح الآية بعدم معرفة النبي(صلى الله عليه وآله) بهم لا يعني إيمانهم وشهادة بعدلهم، بل يحقق لنا علماً إجمالياً بوجود صحابة منافقين، وهو طريق للجزم بأن ليس كل الصحابة عدول. 

ومثل هذه الآية في الدلالة ما جاء في صحيح مسلم من خبر عن النبي(صلى الله عليه وآله): «في أصحابي اثنا عشر منافقا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط»[3].

ثانياً: أهل الفتنة، وهم المتثاقلون عن الجهاد، والمرتابون والمثبّطون للمؤمنين، وقد ورد ذكرهم في قوله تعالى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ* وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[4].

ومن الصحابة نجد قوما سماعين لأهل الفتنة، المتقدّم ذكرهم، يقول تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ)[5].

ثالثاً: الفاسقون، وهم الذين شهد بفسقهم بشهادة من يعتد بشهادته من علماء أهل السنّة، قال الشيخ التفتازاني: (وأمّا ما وقع بين الصحابة من المحاربة والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على السنة الثقات يدلّ بظاهره على أنَّ بعضهم قد حادّ عن طريق الحق، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والحسد واللّداد، وطلب الملك والرياسة، والميل إلى اللّذات والشهوات؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوماً، ولا كلّ من لقي النبي(صلى الله عليه وآله) بالخير موسوماً)، انتهى[6].

وشهد ابن عثيمين في سياق حديثه عن الصحابة بارتكابهم ما يوجب الفسق، قال: (ولا شكّ أنّه قد حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان)[7].

ومن هنا - كما قلنا في البداية - ينبغي للمنصف أن يعطي الحقّ لذي الحقّ، ولا يخلطه أو يشبهه بالباطل لأغراض سياسية أو مذهبية، فالقرآن الكريم أولى بالإتباع في الحكم على الأشخاص والمواقف، ولا توجد آية واحدة في القرآن الكريم تحكي عن العفو المجاني عن جميع الصحابة، وكلّ العمومات المدّعاة بعدالتهم والترضي عليهم تخصصها هذه الآيات المتقدّمة، وهذا مبحث علمي يعرفه أقل الطلبة الذي درس كتابا واحدا في علم الأصول.

مجلة اليقين العدد (63)


[1] نهج البلاغة، الرضي: ج1، ص92.

[2] سورة التوبة: الآية 101.

[3] صحيح مسلم: ج8، ص122.

[4] سورة التوبة: الآيات 44-46.

[5] سورة التوبة: 47-48.

[6] شرح المقاصد في علم الكلام، التفتازاني: ج2، ص306.

[7] شرح العقيدة الواسطية: ج2، ص292.