النواب الأربعة: إنّ الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في فترة الغَيبة الصغرى كان وثيق الصلة بقواعده الشعبية لكن بطريقة تماس تتناسب مع غَيبتة (عجل الله فرجه الشريف) وهذه الطريقة تمثلت بنص السفراء. حيث كان المؤمنون يتّصلون بالإمام الحجّة (عجل الله فرجه الشريف) خلال فترة الغَيبة الصغرى عبر أشخاص مُحدَّدين كانوا يأخذون من الناس أسئلتهم مكتوبة ليوصلوها إلى الإمام (عجل الله فرجه الشريف) فيجيب عنها بالكتابة أيضاً وتعاد لصاحبها.
هؤلاء الأشخاص الُمحدَّدين اصْطُلِحَ عليهم باسم السفراء وكانوا أربعة أشخاص تناوبوا على هذه المهامّ الخاصّة التي أوكلها لهم الإمام الحجّة (عجل الله فرجه الشريف).
مسألة السفراء من المسائل المهمّة والحساسة في ذلك الوقت بمعنى: كيف نعرف أنّ هذا الشخص سفير عن الإمام (عجل الله فرجه الشريف) لا سيما وأنّنا نعلم أن هنالك من ادعى السفارة كذباً باعتبار أنّ مقام السفارة عن الإمام (عجل الله فرجه الشريف) مقام مقدس وعظيم وأقرب شيء من مقام المرجع الأعلى الوحيد للطائفة الشيعية كلها في العالم، فلا يبعد أن يتنافس عليه الكثير وأن يدّعيه الكثير، وكان للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في زمن الغَيبة الصغرى وكما هو معروف أربعة نواب، وهؤلاء السفراء هم على التوالي:
الأول: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي وقد نُسب إلى جدّه لاُمّه الملقَّب بـ «السمّان» ويُقال له: الزيّات الأسديّ. وأمّا لقبه «السمّان» فلأنّه كان يتّجر بالسَّمن تغطيةً على نشاطه وكان الشيعة إذا حملوا إلى الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى عثمان بن سعيد فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى الإمام(عليه السلام) تقيّةً [1]. وقد وثَّقه الإمام الهادي (عليه السلام) بقوله: (هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه )[2]. ووثَّقه الإمام العسكري (عليه السلام) بمثل ذلك وترحَّم عليه الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) عند وفاته حينما أرسل رسالة تعزية إلى ولده أبي جعفر.
قال أبو نصر هبة الله بن محمد: وقبر عثمان بن سعيد بالجانب الغربي من مدينة السلام، في شارع الميدان، في أول الموضع المعروف [في الدرب المعروف] بدرب جبلة في مسجد الدرب يمنة الداخل إليه، والقبر في نفس قبلة المسجد رحمه الله[3].
الثاني: أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري لقّب بالخلاَّني لكثرة اختلائه بأصحابه، وثَّقه الإمام العسكري(عليه السلام) وقال عنه الإمام الحجّة (عجل الله فرجه الشريف): (..وأمَّا محمّد بن عثمان ـ (رضي الله عنه) وعن أبيه من قبل ـ فإنَّه ثقتي وكتابه كتابي)[4].
وقد كانت وكالته للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) أطول فترات الوكالة وقد قضاها في بغداد. كان متواضعاً قال عنه أحمد الدينوري: (فصرت إلى أبي جعفر العمري فوجدته شيخاً متواضعاً عليه مبطنة بيضاء قاعداً على لبد في بيت صغير ليس له غلمان ولا له من المروّة والفرس ما وجدت
لغيره) [5].
وقد استعدَّ لموته وعمل ساجة (خشبة) نقش عليها يوم وفاته وتوفّي في آخر جمادي الآخرة سنة (305هـ) ودفن عند والدته في شارع باب الكوفة ببغداد ومرقده شاخص الآن في منطقة الباب الشرقي يسمّى: مرقد الشيخ الخلاَّني.
الثالث: هو أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي، عيَّنه محمّد بن عثمان سفيراً ثالثاً بقوله: (هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر(عليه السلام) والوكيل له والثقة الأمين، فارجعوا إليه في أموركم وعوّلوا عليه في مهمّاتكم)[6].
وثَّقه الإمام الحجّة (عجل الله فرجه الشريف) بقوله: (نعرفه، عرَّفه الله الخير كلّه ورضوانه وأسعده بالتوفيق، وقفنا على كتابه وثقتنا بما هو عليه، وإنَّه عندنا بالمنزلة والمحلّ اللذين يسرّانه، زاد الله في إحسانه إليه إنَّه وليٌّ قدير)[7].
ولد في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وتوفّي ببغداد في الثامن عشر من شعبان سنة (326هـ)[8].
وكان قوي الإرادة شديد الصلابة في الحق يقول أبو سهل النوبختي: (لو كان الحجّة (عليه السلام) تحت ذيله وقرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه) [9].
ومرقده ببغداد جانب الرصافة مشهور معروف مشيَّد عامر، عليه قبّة صغيرة، وفوق دكّة قبره شبّاك مُجلَّل يزدحم عليه الزائرون المتعبّدون، يُعرَف موضع قبره خلف سوق الشورجة التجاريّ ببغداد على جانب شارع الجمهورية، في زقاق غير نافذ، ويُعدّ مرقده من المراكز الشيعيّة في بغداد.
الرابع: الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري (أو السيمري، أو الصيمري) والمشهور (السمري)، ولد في النصف الثاني من القرن الثالث[10].
قال الشيخ الطوسي: عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، قال: حدَّثني أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتَّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره، فحضرته قبل وفاته بأيّام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلاَّ بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً. وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم) [11].
وقد روى أبو نصر هبة الله بن محمّد الكاتب أنَّ قبر أبي الحسن السمري رضي الله عنه في الشارع المعروف بشارع الخلنجي ـ ببغداد ـ من ربع باب المحول قريب من شاطي نهر أبي عتاب [12]. وهذا القبر الآن في منطقة السراي في باب المعظَّم ببغداد.
الغيبة الصغرى حقّقت جملة من الأهداف أهمّها:
أوّلاً: إثبات وجود الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) لما حفّت ولادته من ظروف من خلال ما يصل إلى الشيعة عنه عبر السفراء والوكلاء من تواقيع وبيّنات وبيانات.
ثانياً: اعتياد الناس على أسلوب استتار الإمام (عجل الله فرجه الشريف)
واحتجابه بعد ما كانوا يعاصرون الأئمة السابقين (عليهم السلام) ويتمكّنون من مقابلتهم والاتصال بهم مباشرة.
ثالثاً: التدرّج مع الناس في اختفاء الإمام؛ لأنّ انسحاب القائد بشكل مباشر من الساحة قد يصدم الناس ولا يستطيعون مواجهة الأحداث وتدبير أمورهم الدينية والدنيوية بمعزل عن الإمام؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام (عليه السلام) في كل عصر والتفاعل معه والرجوع إليه في حل المشاكل المتنوعة فإذا غاب الإمام (عليه السلام) عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية سبّبت هذه الغيبة المفاجأة الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كله ويشتّت شمله، وهذا يفسر حكمة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في تدرجه في الاحتجاب فهو أقل اعتزالاً في الفترة الأولى من السفارة ولكن لم نبلغ عصر السفير الرابع حتى لا يكاد ينقل عن الإمام الحجة (عليه السلام) أي مشاهدة.
ولم تنته هذه المرحلة - فترة السفارة الخاصة - حتى نشأ جيل جديد مستعد لتقبل غيبة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) والتعامل مع القيادة بشكل غير مباشر، ولا يرى بأساً في انقطاع السفارة واحتجاب الإمام (عجل الله فرجه الشريف) عن قواعده.
وصفوة القول: استطاع الإمام (عجل الله فرجه الشريف) من خلال التخطيط للارتباط به عن طريق الوكلاء، وبذلك اعتاد الشيعة هذا الأمر وتقبلوه بشكل تدريجي يزيح معه كل عوامل الارتياب والشك، وهكذا كانت غيبة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) الصغرى أيضاً تمهيداً للغيبة الكبرى التي أمر الإمام (عليه السلام) شيعته بالرجوع إلى رواة حديثهم واتباع الفقهاء العدول من أتباع مدرستهم.
[1] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص 214.
[2] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص354.
[3] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص358.
[4] كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص485.
[5] دلائل الإمامة محمد بن جرير الطبري: ص521.
[6] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص371 و372.
[7] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص372.
[8] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج2، ص48.
[9] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص391.
[10] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج2، 48.
[11] الغَيبة للشيخ الطوسي : ص395.
[12] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص 396 .