قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)[1].
تبيّن هذه الآيات الشريفة بعض أحكام الحج، وزيارة بيت الله الحرام، وتقرّر طائفة من الأبعاد الروحية والمعنوية في الحج، والتي سنقف على جملة منها - إن شاء الله تعالى -
أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية:
يعتبر الحج من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام، ولها آثار وبركات كثيرة جداً، فهو مصدر عَظَمَةِ الإسلام، وقوة الدين، واتحاد المسلمين، والحج هو الشعيرة العبادية التي تُرعب الأعداء، وتضخّ في كل عام دماً جديداً في شرايين المسلمين.
والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين (عليه السلام) ب (علم الإسلام وشعاره)، وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته: (الله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا)[2] أي أن البلاء الإلهي سيشملكم دون إمهال.
وفي الحديث المعروف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان توصفة الأحكام أنه (عليه السلام) أشار إلى أهمية الحج الكبيرة وقال: (فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك... والحج تقوية للدين)[3].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (لا يزال الدين قائما ما قامت الكعبة)[4].
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ:
تقول الآية (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، والمراد بهذه الأشهر: هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجة، وهذه الأشهر تسمى (أشهر الحج)؛ لأن قسما من أعمال الحج والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر، وقسما آخر يجب الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجة، والسبب في أن القرآن الكريم لم يصرّح بأسماء هذه الأشهر؛ لأنها معلومة للجميع، وقد أكّد عليها القرآن الكريم بهذه الآية.
ثم أن هذه الآية تستبطن نفيا لأحد التقاليد الخرافية في الجاهلية، حيث كانوا يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم، فيقدّموا ويؤخّروا منها كيف ما شاؤوا، فالقرآن يقول: (إن هذه الأشهر معلومة ومعينة فلا يصحّ تقديمها وتأخيرها)[5].
لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ:
ثم تأمر الآية الكريمة من أحرم إلى الحج، وشرع بأداء مناسك الحج، وتقول: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ).
(رفث) بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمن ذكر بعض الأمور القبيحة أعم من الأمور الجنسية أو مقدماتها، ثم بات كناية عن الجماع.
وذهب البعض إلى أن الأصل في هذه الكلمة هو الميل العملي للنساء من المزاح واللمس والتماس البدني، الذي ينتهي بالمقاربة الجنسية.
(فسوق) بمعنى الذنب والخروج من طاعة الله، و(جدال) تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنزاع، وهي في الأصل بمعنى شد الحبل ولفه، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين، لأن كل منهما يشدّ الكلام، ويحاول إثبات صحة رأيه ونظره.
وعلى كل حال، ورد هذا الأمر للحجاج في حرمة المقاربة مع الأزواج، وكذلك وجوب اجتناب الكذب والفحش (مع أن هذا العمل حرام أيضا في غير مواضع الإحرام، ولكنه ورد النهي عنه في ضمن محرمات الإحرام).
وكذلك من المحرمات على المُحْرِم في الحج هو الجدال والقسم بالله تعالى سواء كان على حق أم باطل، وهو قول (لا والله، بلى والله) على رأي بعض الفقهاء.
وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحج طاهرة من التمتعات الجنسية، وكذلك من الذنوب، والجدال العقيم، وأمثال ذلك، لأنها أجواء عبادية تتطلب الإخلاص، وترك اللذائذ المادية، وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطاهر قوة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيدا عن عالم المادة، وفي نفس الوقت تقوّي الألفة والاتحاد والاتفاق والاخوّة بين المسلمين، باجتناب كل ما ينافي هذه الأمور.
العمل المخلص بعين الله:
بعد ذلك تعقّب الآية وتبيّن المسائل المعنوية للحج، وما يتعلق بالإخلاص وتقول: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله).
وهذا أول لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الأولى من لذة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأن ما يعمله في سبيل الله إنما هو بعين الله، ويا لها لذة.
وتضيف الآية: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
هذه الآية أمرت من أراد الخروج للحج والعمرة بحمل الزاد، وقد قيل: إن جماعة من أهل اليمن كانوا يحجّون دون أن يصحبوا معهم زادا للطريق، قائلين: نحن ضيوف الله وطعامنا عليه. وهذه الفقرة من الآية أمرت بحمل الزاد، لأن الله سبحانه هيّأ للجميع طعامهم بالطرق الطبيعية.
ولكن الآية تشير إلى حاجة الإنسان الى زاد من نوع آخر ألا وهو (التقوى).
والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحج المعنوي، وتفتح أبصارهم على ما في ساحة الحج من معان عميقة، تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء، وبمشاهد تضحية إبراهيم (عليه السلام) بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة الله سبحانه، مما لا يوجد في مكان آخر، ولابد للحاج أن يستلهم من هذه الساحة زادا يعينه على مواصلة مسيرته نحو الله فيما بقي من عمره.
وتضيف الآية: (وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)
الحديث موجه إلى أولي الألباب والعقول، والتركيز عليهم بانتهاج التقوى؛ لأنهم هم القادرون على التزوّد كما ينبغي من العطاء التربوي لمناسك الحج، والآخرون لا ينالون منها سوى المظاهر والقشور[6].
مجلة بيوت المتقين العدد (58)