وحدة السياق في آية التطهير

المشهور عند جميع المذاهب الإسلامية إن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يستدلون بآية التطهير على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله)، والأئمة (عليهم السلام)، وآية التطهير هي الآية (33) من سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

كما إن أشهر شبهة على هذا الاستدلال تبنتها المذاهب الأخرى هي مخالفة وحدة السياق، فقالوا إن سورة الأحزاب من الآية (28) إلى الآية (34) تحدث عن نساء النبي (صلى آله عليه وآله)، فكون جزء آية - وهو قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً) – مختص بأصحاب الكساء، دون نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وهذا مخالف لوحدة السياق الذي يعتبرونه من كواشف المعاني عند دعوى الإجمال.  

وقد أجاب أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عن هذه الشبهة بعدة إجابات وافية، منها أننا لا نسلم بوحدة السياق في هذه الآيات الكريمة، لاختلاف الضمائر تأنيثاً وتذكيراً، فقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ..﴾ جاء الخطاب بضمير المؤنَّث المجموع ، أما قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ جاء الخطاب بضمير جماعة الذكور، وفي ما بعدها قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ..﴾، رجع الخطاب بضمير جمع المؤنَّث، فأين وحدة السياق يا ترى؟

إن وحدة السياق ليست دليلاً على وحدة المذكور في خطاب أو خبر أو غير ذلك، بل لو سلمنا بذلك يلزم إلغاء أسلوب من أساليب البلاغة، وهو ما يطلق عليه بأسلوب الالتفات، وهو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار، ويُعرَّف أيضاً بأنه "إخراج الكلام من أحد طرق التعبير الثلاثة: التكلم، والخطاب، والغيبة، إلى طريق آخر من هذه الطرق الثلاثة". وبعبارة مختصرة فإن (الالتفات) يقصد منه نقل الكلام من أسلوب إلى آخر.

وهي طريقة في الكلام اعتاد عليها العرب حيث أنها لا تتكلم على أسلوب، بل تنتقل من أسلوب لآخر، لشد المتلقي للمعنى، أو للتخلص من السأم من الأسلوب الواحد، لمقاصد أخرى، وهو من بدائع فنون الكلام البليغ عندهم.

وقد جاء في القرآن الكريم في سورة النبي يوسف (عليه السلام) نظير هذا الاختلاف في الضمائر في الآية الواحدة، قال تعالى: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) يوسف: 29.

فهنا انتقال من ضمير الخطاب المباشر (أنت) إلى ضمير المؤنثة المخاطبة (وَاسْتَغْفِرِي)

كذلك قوله تعالى: (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) يوسف: 51.

أيضاً فجأة انتقل الكلام بدون فواصل من كلام زليخة الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إلى كلام النبي يوسف (عليه السلام) ذَلِكَ (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) يوسف: 51.

الأغراض البلاغية للالتفات:

  1. التلطف في النصح والإرشاد، على ما حق الكلام أن يكون وارداً عليه، كقوله تعالى: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يس:22، فهنا وجه النصح لنفسه لكنه قصد المخاطبين، حيث انتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفاً بهم.
  2. الإشعار بصفة ملازمة للمتكلم، كما في قولة تعالى قوله سبحانه: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الدخان:4-6 فحصل الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب (من ربك)، للإشعار بأن الرحمة  من مقتضيات الربوبية.
  3.   المبالغة، كقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } يونس:22، فبالعدول من المخاطب (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ) إلى الغائب (وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) للمبالغة في الإنكار، فكأنه يخبر غيرهم وهو في الواقع يخبرهم، للمبالغة في شناعة ما يفعلونه بعد النجاة.
  4. التأكيد على شأن الفاعل، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} فاطر:9، فإن سَوْق السحاب وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر من شؤون فاعل قادر، فحصل الانتقال من الغيبة إلى التكلم؛ لأن فيه تأكيد على شأن الفاعل وهو القدرة الإلهية.
  5. التوبيخ، كقوله سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} مريم:88-89، فانتقل من ضمير الغائب إلى المخاطب؛ لأن توبيخ الحاضر أبلغ في الإهانة له.
  6. الاهتمام بالخبر، كقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فصلت:11-12، فحصل انتقال في الخطاب من الغائب (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) إلى المتكلم (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا)، للاهتمام بالإخبار عن نفسه، أنه تعالى جعل الكواكبَ زينة السماء وحفظاً من الشياطين. 

إذاً أسلوب الالتفات في الخطاب والإخبار من أساليب العرب التي زخرت بها لغتهم شهراً ونثراً، فتارة يكون الالتفات من المتكلم إلى الخطاب، ومن المتكلم إلى الغائب، من المخاطب إلى الغائب، والانتقال من خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين، والانتقال من خطاب الواحد إلى خطاب الجمع، ومنه الانتقال في الخطاب من خطاب جماعة الإناث إلى خطاب جماعة الذكور كما في آية التطهير.