إن الحتمية هو مذهب فلسفي مادي قائم على القول بأن جميع الحوادث وبخاصة أفعال الإنسان مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً محكماً، وأن للعالم نظاماً كلياً دائماً لا يشذ عنه شيء في الزمان والمكان، وأنه ليس هناك ابتداء مطلق ولا علة أولى ولا معجزة، وكان هذا المفهوم الجبري شائعاً في الفكر الشرقي القديم، وفي الفكر اليوناني وبعض فلاسفة النصارى، ثم تطور هذا المفهوم إلى مفهوم آخر يسمى (الحتمية التاريخية)، كما عرفته الأدبيات الفلسفية والسياسية في أوروبا، وقد تبنّاه كارل ماركس الشيوعي ودعا إليه، فالحتمية فرضية فلسفية تقول إن كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي، مُسبب ومُحدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي تؤدي بعضها لبعض وفقا لقوانين محددة، ويؤمن البعض بأنها قوانين الطبيعة، في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات التي فيه، وبالتالي فنظرية الحتمية يمكن تبنّيها من قبل أشدّ الناس إلحادا وتمسكا بالقوانين العلمية، كما يمكن تبنّيها من قبل أشدّ الناس إيمانا وقدرية في الحتمية، فلا يمكن حدوث أشياء خارج منطق وقوانين الطبيعة ووفقا للتفسير الديني للحتمية وضع الله القوانين في الطبيعة ليسيّر كل شيء على طبقها، وبالتالي لا مجال لحوادث عشوائية غير محددة سلفا، ويعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانا معرفة النتيجة مسبقاً نتيجة لعدم قدرته على تحديد الشروط الابتدائية للتجربة، أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي، لكن هذا القانون موجود والنتيجة محددة سلفا، وفلسفة الحتمية تنادي أن الإرادة الحرة ما هي إلا مجرد وهم إنساني، باستثناء إذا أردنا تعريفها كما في الفلسفة الانسجامية الأصلية، ويمكن التمييز بين موقفين يظهر من إحداهما أنه يقول إن جميع الحوادث المستقبلية محددة سلفاً وستحدث بالضرورة، وهذا ما يعرف بالقدر وهي نظرة أكثر تعلقاً بالميتافيزيقيا أو علم ما وراء الطبيعة، والحتمية التي ترتبط أساساً وتعتمد على أفكار المادية والسببية، وهو موضوع يبحثه الفلاسفة منذ القدم، إذ من الممكن ولو حتى نظريًّا أن نتوقَّع كلَّ ما سيحدث في المستقبل، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)[1]، فهل يعني هذا أننا لسنا أحرارًا؟ (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ الله) [2]، ويدل على أن الإنسان ليس مسؤولًا عن أفعاله؟ وفي النهاية، فإن الجدل حول الحتمية والإرادة الحرة دائر منذ قرون، ويؤثِّر على كلِّ أفكارنا بشأن الأخلاق والأفعال البشرية. والحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة اليقين العدد (8)