بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)
بيّن الله تعالى في هذه الآية المباركة أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإنسان في ضوء القرآن الكريم وهذه من صفات القرآن الكريم وهي:
إن الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب، وفي الحقيقة أن كل نصح وإرشاد يترك أثراً في نفس الإنسان المخاطب، ويخوفه من السيئات ويرغبه في الصالحات يسمى وعظاً وموعظة، وليس معنى هذا أن كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير في نفس الإنسان المخاطب، بل المراد أنها تؤثر في القلوب المستعدة؛ فالوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب، والواعظ من يمنع المخاطب عن الدخول فيما منعه الله منه وحرّمه، ويدعوا الى ما أمر به ورغب فيه.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ((انتفعوا بموعظة الله وألزموا كتابه، فإنه أبلغ الموعظة وخير الأمور في المعاد عاقبة))[1].
إن أحسن القصص وأبلغ الموعظة وأنفع التذكر كتاب الله عز وجل، فذِكرُ الله تعالى في القرآن الكريم وهو يحث على الاستماع والإنصات للقرآن الكريم: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[2].
يشتمل القرآن الكريم على مواعظ كثيرة من الوعد والوعيد وضرب الأمثال والتذكير بالقرون الماضية وأحوال الأمم السابقة والآراء المحمودة الجاذبة للقلوب القابلة الى سبيل الحق(والموعظة كهف لمن وعاها) كهف منيع وملجأ رفيع لمن وعاها وحفظها وتأثر قلبه اللطيف وذهنه الشريف بها فإنها تدفع عنه شهوات النفس ومكائد الشيطان وتمنعه عن السلوك في سبيل البغي وموارد العصيان الى صراط الحق وطريق الجنان.
وقال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ).
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى...).
وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ...).
وأفضل الوعّاظ وأحكمهم هو الله تعالى: ((فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظة...)) وإن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، إنه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيع القلوب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره.
القرآن الكريم بعد أن وعظ الإنسان بدأ بمرحلة أخرى ألا وهي مرحلة غسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة من خلال العلم الذي هو نور يستضيء به الإنسان الى طريق الحق فالقرآن دواء لإزالة الجهل، الذي هو أضر من داء البدن وعلاجه عسير وأطباؤه أقل والشفاء منه أجلّ.
ويوضح ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير حيث قال: (فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال)[3]، وهذا بنفسه يبين أن القرآن وصفةٌ ربانية لتحسين حال الفرد والمجتمع، وصيانتهم من أنواع الأمراض الأخلاقية والاجتماعية، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف النسيان، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي أخذوا يبحثون عن دوائهم في المدارس الفكرية الأخرى، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة فقط، لا كتاب تفكر وعمل.
وهذه المرحلة هي مرحلة علاج للإنسان لا بد له من أن يعالج ما في قلبه من أدران وأمراض أخلاقية واجتماعية لكي يتهيأ الى المرحلة الثالثة من مراحل التهيئة.
إن الهداية هي دلالة تؤدي الى معرفة الحق فالإنسان عندما يتطهر من الذنوب ويزول عنه الجهل تنفتح أمامه أبواب المعرفة، وبواسطة المعرفة يبدأ بتشخيص الطريق القويم من السقيم، فيعرف الحق وأهله فيشرع في القيام بالأعمال الصالحة التي بيّنها القرآن الكريم قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.....).
فبنور القرآن الكريم ورعايته يسير الإنسان نحو التكامل والرقي في كافة الجوانب الإيجابية.
هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى أن يكون لائقاً لأن تشمله رحمة الله تعالى ونعمته.
إن هذه المراحل الأربعة تتم جميعها في ظل نور القرآن الكريم وتوجيهاته فالقرآن هو الذي يعظ البشر، وهو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة، وهو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها، وهو الذي ينزل النعم الإلهية على الفرد والمجتمع.
فبقوله تعالى: (رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) بين أن القرآن الكريم هو نعمة لمن تمسك به وعمل بما فيه وخص المؤمنين بالذكر دون غيرهم - وإن كان القرآن موعظة ورحمة لجميع الخلق- لأنهم الذين ينتفعون به.
مجلة بيوت المتقين العدد (4)