التطفيف من عوامل الفساد في الأرض

تعرّض القرآن الكريم للتطفيف في الوزن مرارا، منها ما جاء على لسان شعيب (عليه السلام) حينما خاطب قومه قائلا: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[1].

فالتطفيف في الوزن والكيل من الفساد في الأرض، وذلك لما تنتج عنه من مفاسد اجتماعية ذات أبعاد واسعة.

كما جاء التأكيد في الآيتين (7 و8) من سورة الرحمن على ضرورة الالتزام بالعدالة حين استعمال الميزان، بعد الإشارة إلى أن العدل أصل قد روعي فيه حتى نظام الخلق في عالم الوجود: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ)[2].

ولذا، نجد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أولوا هذا الموضوع اهتماما بالغا، حتى روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، ومعه الدرة على عاتقه (لمعاقبة المخالفين)، فينادي: يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل، فإذا سمعوا صوته (عليه السلام) ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول (عليه السلام): قدّموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف (صلى الله عليه وآله) في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس[3].

ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفا، نعود الآن إلى تعابير الآيات الكريمة.. فتارة يقول شعيب (عليه السلام) لقومه: (أَوْفُوا الْكَيْلَ)، وأخرى يقول: (زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ)، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير إلى كل واحد منهما ويهتم به اهتماما خاصا... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس أشياءهم...

ثم إن التطفيف وبخس الناس له طرق شتى، فتارة يكون الميزان صحيحا إلا أن صاحبه لا يؤدي حقه، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان...، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأمور.

وبعد اتضاح هذين التعبيرين (أَوْفُوا الْكَيْلَ) ... (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ) نأتي إلى معنى (لا تبخسوا) المأخوذة من " البخس "، وهو في الأصل النقص ظلما من حقوق الناس... وقد يأتي أحيانا بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين... فبناء على ما تقدم، فإن الجملة الآنفة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين!

وأما جملة (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ) فمع ملاحظة أن " المُخسِر " هو من يُوقِع الآخر أو الشيء في الخسران... فمعناه واسع أيضا، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سببا للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة!

وهكذا فإن جميع ما ذكر من الاستغلال وسوء الاستفادة والظلم، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار، سوآءً كان ذلك في الكمية أو الكيفية، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر...

وحيث أن الاضطراب الاقتصادي، أو الأزمة الاقتصادية، أساس لاضطراب المجتمع، فإن شعيباً (عليه السلام) يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، فتجرُّوا المجتمع إلى هاوية الفساد والانحطاط، فعليكم أن تضعوا حدا لأي نوع من العدوان وتضييع حقوق الآخرين.

وهذه التعليمات ليست بنّاءة للمجتمع الثريّ الظالم في عصر شعيب (عليه السلام) فحسب، بل هي بنّاءة ونافعة لكل عصر وزمان، وداعية إلى العدالة الاقتصادية!..[4].

وزبدة ما تقدم: يعتبر التطفيف في الميزان من العوامل الأساسية في عذاب وهلاك بعض الأمم السالفة، حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام الاقتصادي عندهم من جهة، وإلى نزول العذاب الإلهي عليهم من جهة أخرى.

وقد حثّت الروايات الواردة في خصوص آداب التجارة على الأخذ ناقصا والعطاء راجحا، أي بعكس سلوكية من ذمّتهم الآيات المبحوثة، فهم يأخذون بدقة ويعطون ناقصا.

 وكما قلنا في تفسير الآية، فثمة من يذهب إلى أن مفهوم التطفيف أوسع من أن يحدد بالكيل والميزان، ويمتد ليشمل أي إنقاص في عمل، وأي تقصير في أداء وظيفة فردية أو اجتماعية أو إلهية[5].

مجلة بيوت المتقين العدد (47)

 


[1] الشعراء 181 – 183.

[2] سورة الرحمن: 7-8.

[3] أصول الكافي، ج 5، ص 150، الحديث 3.

[4] الأمثل: ج11، ص451.

[5] الأمثل: ج20، ص19.