الأسرة الخلية الأولى للمجتمع

أقام الإسلام نظام الأسرة على أسس سليمة تتفق مع ضرورة الحياة وتتفق مع حاجات الناس وسلوكهم، واعتبر الغريزة العائلية من الغرائز الذاتية التي منحها الله للإنسان قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[1]، فهذه الظاهرة التي فُطِر عليها الإنسان منذ بدء تكوينه من آيات الله تعالى ومن نعمه الكبرى على عباده.

تعريف الأسرة:

الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، وهي المحيط الصغير الذي يكتسب منه الإنسان ما هو فاضل من سلوك وأخلاق تجعله يفرح هو ويُسعد من حوله، كما قد يكتسب الإنسان من محيطه الأسري ما هو سيء من الأخلاق ما يجعله يَشقى ويُشقي من حوله.

فالأسرة هي نقطة الانطلاق المهمة التي يجب الاهتمام بها أولا من أجل أن نبني جيلا قويا قادرا على العطاء في زمن نحتاج فيه إلى إنسان متسلح بالفضيلة والمبادئ السامية، ليؤدي مهمته التي من أجلها وجد على الأرض.

والأسرة هي نواة المجتمع تنشأ من علاقة زوجية شرعية، ويكون أسـاسها المودة والرحمة والتعاون وإحصان الزوجين والمحافظة على الإنسان، وهي الخلية الأساسية للمجتمع، إذ تتكون من أشخاص تجمع بينهم روابط مختلفة كالصلة الزوجية وصلة القرابة، ومصالح مشتركة أيضاً.

أهمية البيت:

وللبيت أهميته البالغة في التربية، فمن طريقه تحقّق البيئة الاجتماعية آثارها التربوية في الأطفال، فبفضله تنتقل إليهم تقاليد أمتهم، ونظمها، وعرفها الخلقي، وعقائدها وآدابها وفضائلها، وتاريخها، وكثير مما أحرزته من تراث في مختلف الشؤون، فإن وُفِّق المنزل في أداء هذه الرسالة الجليلة حققت البيئة الاجتماعية آثارها البليغة في التربية، وإن فسد المنزل، فإن الطفل حتما يفسد، ولا تكون له أية شخصية محترمة، إن المنزل يقوم بأكثر من دور في حياة الطفل، فهو المنبع الطبيعي للعطف والحنان، فمنه يستمد حياته المطمئنة الهادئة، وقد عني الإسلام به عناية خاصة فأمر بأن تسود فيه المحبة والمودة، وترك الكلفة، واجتناب هجر القول ومرّه، فإن لذلك أثراً عميقاً في تكيّف الطفل، وإذا لم يوفق البيت لأداء مهمته، فإن الطفل يصاب بانحرافات خطيرة، منها القضاء على شعوره بالأمن، وتحطـيم ثقته بنفسه، وغير ذلك مما نص عليه علماء النفس.

العلاقة بين أفراد الأسرة:

تعتمد الأسرة في حياتها على الترابط والتكافل وحسن المعاشرة والتربية الحسنة، وحسن الخلق ونبذ الآفات الاجتماعية، وهي تلك التي تبنى على التكافل القائم على أساس من التماسك بين أفراد الأسرة الواحدة وهذا يدل على تفاهم أفراد الأسرة.

دور الأسرة في المجتمع:

الأسرة باعـتبارها الخلية الأساسية في المجتمع، تعكس ما يتصف به من حركية ومن تماسك أو تفكك، ومن قوة أو ضعف ومن تقدم أو تخلف، فالأسرة هي تلك التي تمد المجتمع بمختلف الفئات النشيطة فهي تؤثّر فيه وتتأثر به فبصلاحها يصلح المجتمع وبفسادها يفسد.

المناهج المشتركة في الأسرة

جعل الإسلام مناهج مشتركة بين جميع أعضاء الأسرة، ودعاهم إلى تطبيقها على واقع حياتهم حتى تـــخيّم عليهم السعادة، ويعيشون جميعاً في نعيم ورضا، منها:

1ـ الحب والمودة:

دعا الإسلام إلى سيادة الحب والمودة والتآلف بين أفراد الأسرة وأن يجتنبوا كل ما يعكر صفو الحياة والعيش، وتقع المسؤولية بالدرجة الأولى على المرأة فإنها باستطاعتها أن تحوّل البيت إلى روضة أو جحيم، فإذا قامت بواجبها، وراعت ما عليها من الآداب كانت القدوة لأبنائها والمؤثرة في تغيير جو الأسرة إلى جو صالح للعيش فيه، فقد أُثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن شخصاً جاءه فقال له: إن لي زوجة إذا دخلتُ تلقّتني، وإذا خرجت شيعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت ما يهمك؟ إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفّل به غيرك، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك الله هماً.

فانبرى (صلى الله عليه وآله) يبدي إعجابه وإكباره بها وقال (صلى الله عليه وآله): (بشّرها بالجنة، وقل لها: إنك عاملة من عمال الله)[2].

وإذا التزمت المرأة برعاية زوجها، وأدّت حقوقه وواجباته شاعت المودة بينهما وتكوّن رباط من الحب العميق بين أفراد الأسرة، الأمر الذي يؤدي إلى خلق عوامل التربية الناجحة؟

2ـ التعاون:

وحث الإسلام على التعاون فيما بينهما على شؤون الحياة، وتدبير أمور البيت وأن يعيشوا جميعاً في جو متبادل من الود والتعاون، والمسؤولية تقع في ذلك على زعيم الأسرة وهو الزوج، فقد طلب الإسلام منه أن يقوم برعاية زوجته ويشترك معها في شؤون منزله، فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتولى خدمة البيت مع نسائه، وقال (صلى الله عليه وآله): (خدمتك زوجتك صدقة) كنز العمال للمتقي الهندي: ج16، ص408، وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشارك الصدّيقة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) في تدبير شؤون المنزل ويتعاون معها في إدارته، حيث قال (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ما رآه في البيت ينقي العدس، وفاطمة (عليها السلام) جالسة عند القدر: (اسمع مني يا أبا الحسن، وما أقول إلا من أمر ربي: ما من رجل يُعين امرأته في بيتها، إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله من الثواب مثل ما أعطاه الصابرين وداود النبي ويعقوب وعيسى - (عليهم السلام) -، يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنف، كتب الله اسمه في ديوان الشهداء، وكتب له بكل يوم وليلة ثواب ألف شهيد، وكتب له بكل قدم ثواب حجة وعمرة، وأعطاه الله بكل عرق في جسده مدينة في الجنة ...)[3].

 ومن الطبيعي أن هكذا أمر يخلق في نفوس الأبناء روحاً من العواطف النبيلة التي هي من أهم العناصر الذاتية في التربية السليمة.

3ـ الاحترام المتبادل:

وحث الإسلام على تبادل الاحترام، ومراعاة الآداب بين أعضاء الأسرة فعلى الكبير أن يعطف على الصغير، وعلى الصغير أن يقوم بإجلال الكبير وتوقيره، فقد أُثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في جملة وصاياه العامة: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويعــرف حقنا)[4]، إن مراعاة هذه الآداب تخلق في داخل البيت جواً من الفضيلة والقيم الكريمة، وهي توجب تنمية السلوك الصحيح في نفس الطفل، وتبعثه إلى الانطلاق في ميادين التعاون مع أسرته ومجتمعه، وقد ثبت في علم التحليل النفسي بأن قيم الأولاد الدينية والخُلُقية إنما تنمو في محيط العائلة.

مسؤولية أفراد الأسرة في الإسلام:

إذا منيت الأسرة بعدم الانسجام والاضطراب فإن أفرادها يصابون بآلام نفسية، واضطرابات عصبية، وخصوصاً الأطفال فإنهم يمنون بفقدان السلوك والانحراف، وقد أظهرت الدراسات والبحوث التربوية الحديثة أن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى انحراف الأحداث هو اضطراب الأسرة وعدم استقرارها فتنشأ منه الأزمات التي تؤدي إلى انحرافهم.

 لذا من اللازم الحفاظ على استقرار الأسرة، وإبعادها عن جميع عوامل القلق والاضطراب حفاظاً على الأحداث، وصيانة لهم من الشذوذ والانحراف.

مسؤوليات الأب:

الأب ليس مسؤولاً عن الحياة الاقتصادية وتوفيرها لأبنائه فحسب، وإنما هو مسؤول عن تربيتهم، وتهذيبهم، وتأديبهم، وتوجيههم الوجهة الصالحة، وأن يعوّدهم على العادات الطيبة، ويحذّرهم من العادات السيئة، يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام): (وأما حق ولدك، فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب، والدلالة على ربه والمعونة له على طاعتك فيك، وفي نفسه، فمثاب على ذلك، ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذرة إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه..)[5].

وكان هذا الإمام العظيم (عليه السلام) يدعو لولده بهذا الدعاء: (اللهم.. واجْعَلْهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِيَاءَ بُصَرَاءَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَكَ، ولأَوْلِيَائِكَ مُحِبِّينَ مُنَاصِحِينَ، ولِجَمِيعِ أَعْدَائِكَ مُعَانِدِينَ ومُبْغِضِينَ، آمِينَ)[6].

إن الأب مسؤول عن تربية أبنائه تربية صالحة ليكونوا قرّة عين له في مستقبله، وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعنون بهذه الجهة ويولونها المزيد من الاهتمام، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام): (وجدتُك بعضي بل وجدتك كلّي حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي..)[7].

إن الولد ليس بعضاً من الأب بل هو نفسه يحكي وجوده وكيانه، فعليه أن يهتم بشؤونه التربوية، وأن يعني في تهذيبه، وكماله ليكون فخراً وزيناً له، أما إذا أهمل تربيته، ولم يعن بشؤونه يغدو نقمة ووبالاً عليه..

ونعرض فيما يلي إلى بعض مسؤوليات الأب:

1ـ العناية بالأبناء: على الأب أن يُعنى أشد العناية بأبنائه، وأن يوليهم المزيد من اهتمامه ويغدق عليهم العطف والحنان، ويقوم بتكريمهم أمام الغير فإن لذلك أثره الفعال في بناء كيانهم التربوي، وازدهار شخصيتهم ونموهم الفكري وعلى هذا الأساس الخلاّق كان النبي (صلى الله عليه وآله) يرعى سبطيه وريحانتيه الحسن والحسين، فكان يحملهما ويقول: (هذان ريحانتايّ من الدنيا، من أحبني فليحبهما..)[8]، وكان يقول (صلى الله عليه وآله) لبضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ادعي ابنَي، فتأتي بهما إليه فيشمهما ويضمهما)[9].

2ـ المساواة بينهم: وينبغي للأب أن يغمر جميع أولاده بالحب ويساوي بينهم بالحنان، والعطف والرعاية، فإن اختصاص بعضهم بذلك، وحرمان الباقين منه مما يؤدي إلى العقد النفسية، والغيرة والحفيظة، ونشوب الثورات الانفعالية في نفوسهم، كما تجعلهم عرضة للإصابة بأمراض عصبية خطيرة.

وحكى القرآن الكريم قصة يوسف حينما آثره أبوه يعقوب(عليه السلام)، وميّزه على بقية أبنائه فأجمع رأيهم على الكيد له، فألقوه في غيابة الجب، (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)[10]، فحزن عليه يعقوب (عليه السلام) (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)[11]، وهذه المحنة الكبرى التي دهمته كانت نتيجة الأثرة، وتقديمه ليوسف على أخوته، وقد أثر عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (اعدلوا بين أولادكم في السر، كما تحبون أن يعدل بينكم في البر واللطف)[12].

3ـ إشاعة الود: على الأب أن يغمر بيته بالود والعطف، ويشيع بين أهله الحب والحنان، وأن يقابل خصوص زوجته بالإحسان، ويوفر لها ما تحتاج إليه فإن ذلك ـ أولاً ـ من حقوقها الطبيعية التي فرضها الله.

ـ وثانياً ـ أنه يبعث على التربية الصحيحة للطفل وازدهار شخصيته، لأنه يعيش في جو من الحب والدعة والاستقرار... وحث الإسلام على مراعاة الزوجة، يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)[13]، وقال (صلى الله عليه وآله): (عيال الرجل أسراؤه، وأحب العباد إلى الله عز وجل أحسنهم صنيعاً إلى أسرائه)[14].

4ـ اجتناب فحش القول: والأب باعتباره عميد الأسرة فهو مسؤول عن إقامة الكيان التربوي فيها، وعليه أن يجتنب فحش القول، وبذاءة الكلام، وكل ما يخل بالآداب العامة، وإن يقيم في بيته العفة والطهارة، ويجنب أهله المنكر وسيئ القول فإن كلامه وسيرته تنفذ إلى أعماق قلوب أبنائه، وتنطبع فيها سيرته وأخلاقه.

إن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة، وهو يشاهد أبويه يفعلان المنكر، ويقترفان الإثم، وإن الأب الذي يكذب ويطلب من طفله أن يكون صادقاً فإنه لا ينصاع لقوله، وإنما يتبع عمله وسيرته ... على الأب إذا أراد أبناءه أن يكونوا قرّة عين له في مستقبله فعليه أن يطبق على واقع حياته الصفات الكريمة وأن يسير سيرة طيبة ليكون قدوة حسنة لأهله وغيرهم. كما توجد مسؤليات أكثر من تلك التي ذكرناها للأب كتأديب الأطفال، وابعادهم عن تناول الحرام، ومراقبة سلوكهم.

مسؤولية الأم:

إن الأسرة السعيدة هي الأسرة المتماسكة فيما بينها، تجتمع على الطاعة، ويسودها الحب والوئام، ولا يمكن لأسرة أن تشعر بالسعادة مع وجود التفرق بين أفرادها، ووجود البغض والكراهية فيما بينها، ولذا كان لا بدَّ للأسرة من ربَّان يقود دفة البيت إلى الأمان، ويجنبه المخاطر والهلاك، وهو الأب، وتعينه على تلك القيادة زوجته، ومن هنا جعلهما الشرع المطهر مسئولين عن أفراد أسرتهما.

إن الأم هي المدرسة الأولى في بناء شخصية الطفل، وإكسابه العادات فإذا كانت مهذبة كريمة تم إنشاء جيل صالح، متّسم بالاتزان في سلوكه، وإذا لم تكن مهذبة فإن الجيل حتماً يصاب بالتحلّل، ويمنى بكثير من المفاسد.

إن الأم تتحمل مسؤولية اجتماعية كبيرة، فهي مسؤولة عن مستقبل الأمة وصلاحها وانطلاقها، ويُعدُّ مهدها وحضانتها اللبنة الأولى في بناء الكيان التربوي الصالح أو الطالح.

واجباتها:

على الأم التي تريد أن ترى في أبنائها قرة عين وذخيرة لها في مستقبلها أن تسهر على تربيتهم، وترعى سلوكهم، وتبث في نفوسهم النزعات الطيبة والمثل الكريمة، ونعرض فيما يلي لبعض المناهج التي ينبغي لها أن تطبّقها على واقع تربيتها:

1ـ تحبذ لهم كل سلوك طيب، وتُلمِسُهم النتائج الشريفة التي تترتب على فعله، وتشجيعهم عليه بجميع إمكانياتها.

2ـ أن تجنّبهم عن كل طريق إجرامي أو عادة سيئة، وتخوفهم من سلوك أي جهة لا تتفق مع العادات الدينية، والاجتماعية، وتدلل لهم على ما يترتب عليها من الضرر لهم، وللأسرة والمجتمع.

3ـ عليها أن تربي بناتها على الطهارة والعفة، وترشدهن إلى محاسن النساء الخالدات، كفاطمة الزهراء وخديجة الكبرى والحوراء زينب (عليها السلام)، وتحذرهن من خلع الحجاب، وارتداء بعض الأزياء التي ترتديها الفتاة الغربية التي لا تشعر بالعفة والكرامة... وعليها أن ترعى باهتمام أمر بنتها، فتراقبها، وتتفحّص شؤونها، حتى لا تتلوث بالأخلاق الفاسدة التي دهمت بلاد المسلمين، وغزت حياتهم الفكرية والعقائدية.

4ـ أن لا تُسرف في دلال أطفالها فإن لذلك من المضاعفات السيئة التي توجب تأخر التربية، وعدم قابلية الطفل في مستقبل حياته لتحمل مشاق الأمور ومصاعبها، فهناك بعض الآباء والأمهات الجهلاء ليس لهم أدنى اهتمام بخير الطفل وصلاحه، هؤلاء الوالهون المفرطون في الحب والحنان، الذين أعمى الحب عيونهم، وأصمّ آذانهم... هدفهم الوحيد هو إرضاء الطفل وتنفيذ رغباته، فيعطون المجال له بدون حساب، ويجعلون أنفسهم طائعين فعلاً وممتثلين لأوامر الطفل الصغير، منقادين له تماماً، وكل يوم يزداد من عمر الطفل يزداد إعجابه بنفسه، وتتحكم في نفسه جذور الاستبداد والتعنّت بالرأي، ويعود عالة على المجتمع، هؤلاء الآباء والأمهات، وإن تظاهروا بمظهر الحب والحنان فإنهم في الواقع يحملون معاول لهدم أساس سعادة أطفالهم، ويقودونهم بعواطفهم المفرطة ومحبّتهم غير المرضية إلى طريق التعاسة، والمستقبل المؤلم.

ولعل كثير من الآباء والأمهات لا يدركون خطر الإفراط في المحبة بالنسبة إلى الطفل إدراكاً تاماً، ولا يفهمون أنهم كيف يرتكبون ظلماً كبيراً بأعمال ظاهرها الرأفة والحنان، إنهم يدفعون الطفل إلى الإعجاب بنفسه فينشأ تعيساً في جميع أدوار حياته ومستقبله من جهة، ومن جهة أخرى يجعلون أنفسهم في عداد (شرّ الآباء) على حد تعبير الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث قال: (شرّ الآباء من دَعاه البرّ إلى الإفراط، وشرّ الأبناء من دَعاه التقصيرُ إلى العُقوق)[15].

5ـ أن تُشعِر أبناءها بمقام أبيهم، ولزوم تعظيمه، واحترامه حتى يتسنى له القيام بتأديب من شذّ منهم، وإرغامه على السلوك الحسن، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ أَبِي نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ ومَعَه ابْنُه يَمْشِي والِابْنُ مُتَّكِئٌ عَلَى ذِرَاعِ الأَبِ، قَالَ: فَمَا كَلَّمَه أَبِي (عليه السلام) مَقْتاً لَه حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا)[16].

 6- أن تُبعِد أطفالها عن الشوارع فإنها لا تخلو من المغريات، ودوافع السلوك المضاد للأخلاق الحميدة، فقد أصبحت تعجّ بالمنحرفين والمصابين بأخلاقهم الذين هم مصدر لتلويث الأطفال، وجرهم إلى حمأة الرذائل والموبقات.

 واجبات الأبناء:

أولى الإسلام رعاية الأبناء لآبائهم اهتماماً خاصاً، وأوجب عليهم طاعتهم المطلقة، وجعل عقوقهم من الكبائر التي توعّد عليها بالنار، لقد أعلن كتاب الله العظيم في غير آية من آياته لزوم الإحسان للأبوين ووجوب طاعتهما، وقرن ذلك بعبادته، وطاعاته قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)[17].

على هذا النهج القويم الذي يمثل أصالة الإسلام وخلوده في تربيته وتعاليمه يجب على المسلم أن يعامل أبويه، ويقابلهما بكل ما يملك من طاقات الخدمة والإحسان وأن يسخّر نفسه للعمل بما يرضي عواطفهما، ويشيع في نفوسهما روح الرضا والقبول، وقد تواترت الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام) بلزوم البر والإحسان إليهما، وفيما يلي بعض تلك النصوص.

 عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي رَاغِبٌ فِي الْجِهَادِ نَشِيطٌ؟ قَالَ: فَقَالَ لَه النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): (..فَجَاهِدْ فِي سَبِيلِ الله فَإِنَّكَ إِنْ تُقْتَلْ تَكُنْ حَيّاً عِنْدَ الله تُرْزَقْ وإِنْ تَمُتْ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُكَ عَلَى الله وإِنْ رَجَعْتَ رَجَعْتَ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وُلِدْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) إِنَّ لِي وَالِدَيْنِ كَبِيرَيْنِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا يَأْنَسَانِ بِي ويَكْرَهَانِ خُرُوجِي، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): فَقرَّ مَعَ وَالِدَيْكَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لأُنْسُهُمَا بِكَ يَوْماً ولَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ جِهَادِ سَنَةٍ)[18].

ويؤكد الإسلام بصورة خاصة على خدمة الأم والبر بها أكثر من الأب لأن حقوقها على الولد أكثر من حقوق الأب، فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) أن رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: من أبر؟ قال (صلى الله عليه وآله): (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أباك)[19].

إن الولد مسؤول أمام الله عن رعاية أمه والبر بها، وتوفير ما تحتاج إليه جزاءً لأتعابها القاسية، وعنائها الشاق الذي بذلته في تربيته...فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) رجل فقال: ان أبوّي عمّرا وان أبي مضى وبقيت أمي، فبلغ بها الكبر حتى صرت أمضغ لها كما يمضغ الصبي، وأوسدها كما يوسد الصبي، وعلقتها في مكتل أحركها فيه لتنام، ثم بلغ من أمرها إلى أن كانت تريد مني الحاجة فلا ندري أي شيء هو، فلما رأيت ذلك سألت الله عز وجل أن ينبت علي ثديا يجري فيه اللبن حتى أرضعها، قال : ثم كشف عن صدره فإذا ثدي، ثم عصره فخرج منه اللبن، ثم قال: هو ذا أرضعتها كما كانت ترضعني، قال : فبكى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثم قال : (أصبت خيرا، سألت ربك وأنت تنوي قربته، قال: فكافأتها؟ قال : لا، ولا بزفرة من زفراتها)[20].

وإن البر بالوالدين، ولزوم طاعتهما، والقيام بجميع ألوان الخدمة لهما كل ذلك من العناصر الأساسية في التربية الإسلامية الهادفة إلى تماسك المجتمع على أساس من المودة الصادقة والحب المتبادل.

والحمد لله رب العالمين.

 


[1] سورة الروم: آية 21.

[2] مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص200.

[3] جامع السعادات للنراقي: ج2، ص109، عن جامع الأخبار.

[4] الأمالي للشيخ المفيد: ص18.

[5] تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص263.

[6] الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام): ص120.

[7] تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص68.

[8] بحار الأنوار للمجلسي: ج37، ص75.

[9] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج14، ص153.

[10] سورة يوسف: آية 16.

[11] سورة يوسف: آية 84.

[12] مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص220.

[13] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج20، ص171.

[14] من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج3، ص555.

[15] تاريخ اليعقوبي: ج2، ص320.

[16] الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص349.

[17] سورة الإسراء: 23-24.

[18] الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص160.

[19] الخلاف للشيخ الطوسي: ج5، ص124.

[20] مستدرك الوسائل للنوري الطبرسي: ج15، ص199.