وهي القراءة التي يرّوج لها كُتّاب الدولة الأموية وأبواقها ومرتزقتها وهم كُثُر، بعد تنامي هذه الدولة الملعونة، لذا ترى انتشار هذه القراءة في الأوساط، وشيوعها عند عامة الناس.
وتعود خلاصته إلى محاولة تصوير ضعف إرادة الإمام (عليه السلام) وعدم إحاطته بشؤون السياسة العامة وعجزه عن إدارة دفة الدولة، وعدم تداركه للموقف بالاعتماد على الأساليب السياسية وإن منع عنها الدين، فإن نال الظَفَر فذاك، وإلا فالشهادة في سبيل المجد التي هي شعار الهاشميين، وهدف المصلحين، وهذا الرأي مبني على ظواهر لا تمُتّ إلى الواقع بِصلة، ولا تلتقي معه بطريق، وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الظروف المحيطة بالإمام، وعدم الوقوف على ميول شعبه الذي أصيب بأخلاقه وعقيدته، مع نية أموية واضحة لتشويه سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وتصويرهم بالعاجزين عن إدارة الدولة وبالتالي عدم استحقاقهم للخلافة الإلهية بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، أو قد يكون صاحب هذا الرأي ممن سارع إليه من غير بصيرة أو إدراك لخطورته، لعجز أو تواكل، فلذا كان هذا الرأي سطحيا وخاليا عن التحقيق وبعيدا عن الواقع، مع قسط وافر من سوء النية والسريرة، أما الذاهبون لهذا الرأي فهم :
١ ـ الصفدي :
قال الصفدي في شرحه لهذا البيت من لامية العجم :
حب السلامة يثني عزم صاحبه |
عن المعالي ويغري المرء بالكسل |
وقد رضي بالخمول جماعة من الرؤساء والأكابر المتقدمين في العلم والمنصب وفارقوا مناصبهم، وأخلَوا الدسوت من تصديرهم، ثم ذكر جماعة من الذين رضوا بالخمول ونزعوا عن أنفسهم الخلافة ثم قال :
وهذا الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) قال لمعاوية: إن عَلَيّ دَينا فأوفُوه عَنّي وأنتم في حِلٍّ من بيعتي، فأوفوا دَينه وترك لهم الخلافة[1]. وقد خَبَط ألصفدي خَبْط عَشواء، وكان قلما أمويا – من حيث يشعر أو لا يشعر – يُشوِّه الحقائق ويطمس آثار أهل البيت (عليهم السلام)، فإن الإمام متى باع الخلافة على خصمه بوفاء دينه؟ نعوذ بالله من هذا الافتراء.
٢ ـ الدكتور فيليب حتي :
قال فيليب حتي: وفي بدء حكم معاوية قامت حركة أخرى كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت، أعني: إعلان أهل العراق الحسن بن علي الخليفة الشرعي، ولعملهم هذا أساس منطقي لأن الحسن كان أكبر أبناء علي وفاطمة ابنة النبيّ الوحيدة الباقية بعد وفاته، ولكن الحسن الذي كان يميل إلى الترف والبذخ، لا إلى الحكم والإدارة لم يكن رجل الموقف، فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها[2].
٣ ـ العلائلي :
قال العلائلي: ولكنه - يعني: الحسن(عليه السلام) - كان قديرا على أن يَعُدّ الجماعات المنحلة عن طريق الاستشارة والحماس، وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال نابليون الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة كما أنهكت العرب، وزاد هو في إنهاكه بالحروب المتتالية المستمرة التي أخذ بها أوربا، ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس[3].
٤ ـ المستشرق روايت رونلدس:
قال هذا المستشرق: فإن الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح [4].
وهذا المستشرق من الحاقدين على الإسلام، وقد شحَن كتابه بالكذب والطعن على الإسلام والحط من قيمة أعلامه النابهين.
٥ ـ لامنس :
قال هذا الإنگليزي المتهوس الأثيم الذي لم يفهم من التاريخ الإسلامي شيئا: وبويع للحسن بعد مقتل علي فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة إلى قتال أهل الشام، وقلَبَ هذا الإلحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة، فلم يَعُد يفكر إلا في التفاهم مع معاوية، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق، وانتهى بهم الأمر إلى إثخان إمامهم - اسما لا فعلا - بالجراح فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول إلى اتفاق مع الأمويين، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة، ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهما أخرى، ودخل كوره في فارس طيلة حياته وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق، بَيْدَ أنه أجيب إلى كل ما سأله حتى أن حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم على أنه لم يضاعف طلبه وترك العراق مشبعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة[5]، وهذه الدائرة لم تكن إلا دائرة كذب وافتراءات فقد حفلت بالطعن على الإسلام والسب لأعلامه خصوصا في بحوث (لامنس) عن الشيعة وعن أئمتهم فإنها مليئة بالبهتان والتهريج عليهم، والسبب في ذلك إن لجان التبشير المسيحي هي التي تدفع أمثال هذه الأقلام المأجورة لتشويه الإسلام والكيد له، مضافا إلى أن بحوث المستشرقين تعتمد على دراسة سطحية خالية عن التحقيق والتدقيق، ومن المؤسف أن شبابنا قد عكف على دراسة مؤلفاتهم والاعتماد عليها في أطروحاتهم مع أنها لا نصيب لها من الصحة والواقع.
وهؤلاء الناقدون لصلح الإمام (عليه السلام) كان بعضهم مدفوعا بدافع الحقد والعداء للإسلام، وبعضهم لم يكن رأيه خاضعا لحرية الفكر ولم يحتضن قولهم الدليل في جميع أحواله، وذلك لعدم وقوفهم على العوامل التي أحاطت بالإمام حتى دعته إلى مسالمة خصمه، ويجب على الكاتب الذي يريد أن يجسد للمجتمع صورة عن شخصية مهمة لها من الخطورة شأن كبير أن يحيط بأطرافها من جميع النواحي ليكون رأيه قريبا إلى الصواب وبعيدا عن الخطأ.
وقد استند هؤلاء في تكوين الرؤية السلبية المتقدمة عن الإمام الحسن (عليه السلام) إلى روايات أوردتها مصادر تأريخية إسلامية، مما وضعه الإعلام العباسي بأمر الخليفة العباسي أبي جعفر الدوانيقي، لمواجهة الحسنيين الثائرين ضد العباسيين، لتجريدهم من سلاح قوي بيدهم وهو التاريخ المشرق لأبيهم الحسن (عليه السلام) وجدّهم علي (عليه السلام)، حيث صوَّروا الإمام الحسن (عليه السلام) أنه رجل شهوات وملذات، في قِبال ما تعرضه الروايات الصحيحة من أنه شخصية رائدة: عبادةً وسلوكاً ومكانةً في الدين، وأنه بلغ في الشرف ما لم يبلغه أحد بعد جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام).