فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ

ليس من شيء إلّا وله اهتمام في القرآن الكريم، وهذا الاهتمام له غرض ينفع البشر في الهداية للحياة الكريمة (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ)[1] وما على الإنسان إلّا التسليم لله والتفكر في آياته وصفاته، والتدبر في القرآن الكريم لينال تلك الحياة بيسر وسهولة، ويحظى بسعادة الدارين.

وقد ملأ الباحثون والمتدبرون بطون الكتب والمكتبات بمفاهيم الهداية القرآنية على نحو الإجمال والعموم تارة، وعلى نحو التفصيل والتخصيص تارة أخرى، دون أن ينضب من القرآن جزء يسير، بل يزداد زاخراً بالعطاء والاستمرار على مر العصور والأجيال.

 ومن المفاهيم التي تتعلق بالهداية مفهوم المرض، ولا يتعجب متعجب من هذا التعلق المهم الذي سنذكره في هذه الصفحات القليلة.

جاء في اللغة: المرض، كلّ ما خرج بالكائن الحيّ عن حدِّ الصِّحَّة والاعتدال من عِلّة أو نفاق أو تقصير في أمرٍ. معجم اللغة العربية المعاصرة.  

وفي القرآن الكريم ذكرت هذه المعاني في موارد مختلفة، فأما معنى العلة، فمثل قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).[2]

وقوله تعالى: (وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).[3]

وهذا ما يتعلق بعلل الجسم، وما يصيب البدن من الأسقام والعاهات، وذكرت تفاصيلها في آيات أخرى، مثل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)[4] ومنه قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا)[5] قال: رب إني كَبِرْتُ، وضعف عظمي، وانتشر الشيب في رأسي

ضعف أو فقدان الذاكرة

قال الله تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) النحل: 70.

قال الله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).[6]

هذا ما يتعلق بأمراض الجسم البيولوجي، وهي ليس لها علاقة بالهداية إلّا من باب الأثر والنتيجة، واللوازم لبعض الموارد.

وهناك أمراض أخرى تتعلق بالقلب والنفس ولها العلاقة بالهداية والضلالة بصورة أساسية، هي نوع من الفساد يحصل للقلب، ويظهر من التعابير القرآنية أنها أمراض إرادية ناشئة من اختيار الإنسان في شهوة أو عصبية أو انفعال في فكرة أو موقف معين، وقد ذكرها القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال الله تعالى: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ).[7]

ومن ميزة أمراض القلب الهدوء ودخول القلب من دون شعور لتتمكن وتستقر حتى وتُصبِح صفة كامنة في القلب.

وقد نسب القرآن الكريم إلى القلب أنواع الأسقام بحسب الأثر الذي يقع على الإنسان منها:

1– إثم القلب، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.[8]

2– الزيغ، وهو الميل الحق، قال الله تعالى: ﴿فأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾.[9]

3– الغل، وهو الحقد الكامن، والعداوة والضغينة، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾.[10]

4– الغلظة، وهي الشدّة والقسوة، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.[11]

5– النفاق، وهو أشد الأمراض وأفتكها بالإنسان حيث تخرجه من عالم الهداية إلى عالم الضلالة والفسق، قال الله تعالى: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ).[12]

6– قسوة القلب، حيث لا يؤثِّرُ داعي الخير والنهي عن الشر، قال الله تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله).[13]

7– عمى القلب، وهو حج القلب عن نور الإيمانِ، قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.[14]

8– غفلة القلب، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.[15]

9– التكبر، قال الله تعالى: ﴿قلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾.[16]

10– القلب اللاهي، أي مشغول بالدنيا، معرض عن ذكر الله، قال الله تعالى: ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.[17]

وهناك أوصاف لأمراض أخرى لا يسع الكلام لذكرها.

ولأن هذه الأسقام المهلكة اختيارية كما قلنا، فإنه يمكن السعي إلى علاجها والشفاء التام منها، بالإصرار والإرادة، وذلك من خلال التسليم والتوجه إلى الله تعالى، والنية الخالصة في التخلي عن الصفات القلبية السيئة، تلك التي تتورد الإنسان المهالك، وتبعده عن الصحيح من المسالك.

فإذا فعل الإنسان ذلك بإرادة قوية، وعرف الله منه الخير والصدق، كان له عوناً وسنداً، ورزقه التوفيق والسداد، حتى يلقاه على ذلك، فالله تعالى هو الذي يطهر القلوب إذا صدق أصحابها، ويزرع فيها الإيمان، قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[18] وقال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾[19] وقال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [20]

كما أن القرآن الكريم وتدبر ما فيه من الهداية يشفي من تلك الأسقام، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس 57. وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.[21]

 


[1] الاسراء:9 .

[2] البقرة :١٨٤.

[3] النور: 61.

[4] النور 61.

[5] مريم: 4.

[6] يوسف 84.

[7] التوبة: 125.

[8] البقرة: 283.

[9] ال عمران 7.

[10] الحشر: 10.

[11] ال عمران 159.

[12] التوبة 77.

[13] الزمر 22.

[14] الحج: 46.

[15] الكهف 28.

[16] غافر 35.

[17] الأنبياء: 3.

[18] الحجرات: 7.

[19] الحديد: 27.

[20] الفتح: 4.

[21] الإسراء 82.