الصوم مدرسة التقوى

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185))[1]

  تناولت هذه الآيات أحكامَ واحدةٍ من أهمِّ العبادات، وهي عبادة الصوم، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) نعم، الصوم عامل فعّال لتربية روح التقوى في جميع المجالات والأبعاد.

 ولمّا كانت هذه العبادة مقرونة بمعاناة وصبر على ترك اللذائذ المادية، وخاصة في فصل الصيف، فان الآية طرحت موضوع الصوم بأساليب متنوعة؛ لتهيّئ روح الإنسان لقبول هذا الحكم.

تبتدئ الآية أولا بأسلوب خطابي وتقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو نداء يفتح شغاف القلب، ويرفع معنويات الإنسان، ويشحذ همّته، وفيه لذة قال عنها الإمام الصادق (عليه السلام): (لذة ما في النداء - أي يا أيها الذين آمنوا - أزال تعب العبادة والعناء)[2].

ثم تبيّن الآية أن الصوم فريضة كتبت أيضاً على الأمم السابقة.

ثم تبيّن الآية فلسفة الصوم وما يعود به على الإنسان من منافع، لتكون هذه العبادة محبوبة ملتصقة بالنفس.

الآية التالية تتجه أيضاً إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) فالفريضة لا تحتل إلا مساحة صغيرة من أيام السنة.

ثم تقول: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، فالمريض والمسافر معفوّان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام أُخر.

ثم تصدر الآية عفوا عن الطاعنين في السن، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ). ("يطيقونه" أي الذين يبذلون غاية طاقتهم لدى الصوم، والذين يجهدهم الصوم ويثقل عليهم، فهؤلاء معفوّون من الصوم، وعليهم أن يدفعوا الفدية بدل ذلك، وعلى المرضى الذين يشفون أن يقضوا صومهم.

ثم تقول الآية (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (إنها تأكيد على أن الصوم ينبغي أن يكون عن رغبة وطواعية، لا عن إجبار وإكراه).

وأخيراً تبيّن الآية حقيقة وهي: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي أن هذه العبادة - كسائر العبادات - لا تزيد الله عظمة أو جلالاً، بل تعود كل فوائدها على الناس.

آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول: شهر رمضان هو الشهر الذي فرض فيه الصيام، وهو الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، أي معيار معرفة الحق والباطل.

ثم تؤكّد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ) أي من كان في حضر فليصم شهر رمضان، وقيل إن جملة (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ) تعني رؤية الهلال وهو بعيد، والحق ما ذكرناه وروايات أئمة أهل البيت تؤيد ذلك.

تكرار حكم المسافر والمريض في هذه الآية والآية السابقة، قد يكون سبب كراهية بعض المسلمين أن لا يصوموا أيام شهر رمضان حتى ولو كانوا مرضى، أو مسافرين، والقرآن بهذا التكرار يُفهم المسلمين أن الصوم في حالة السلامة والحضر حكم إلهي، والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضاً لا تجوز مخالفته.

وفي آخر الآية إشارة أخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: (يُرِيدُ الله بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ). فالصوم - وإن كان على الظاهر نوعاً من التضييق والتحديد - مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوي.

ولعل هذه العبارة إشارة إلى أن الأوامر الإلهية ليست كأوامر الحاكم الظالم، ففي الصوم رخّص حيثما كان فيه مشقة على الصائم، لذلك رفع تكليف الصوم - على أهميته - عن المريض والمسافر والضعيف.

ثم تقول الآية: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهرا، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه؛ لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدة، وحتى الحائض - التي أعفيت من قضاء الصلاة - غير معفوة عن قضاء الصوم.

والعبارة الأخيرة من الآية تقول: (وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لتكبّروه على ما وفّر لكم من سُبل الهداية، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.

الشكر في الآية مسبوق بكلمة لعل، لكن التكبير مؤكد بشكل قاطع غير مسبوق بترجٍ، وقد يعود الاختلاف في التعبير إلى أن عبادة (الصوم) هي على كل حال تكبير لله، وتعظيم له سبحانه، أما الشكر - وهو إنفاق النعم في مواضعها والاستفادة من الآثار العملية للصوم - فله شروط أهمها الإخلاص التام، وفهم حقيقة الصوم، والاطلاع على أبعاده وأعماقه[3].

مجلة بيوت المتقين العدد (55)

 


[1] سورة البقرة: الآيات 183ـ 185.

[2] مجمع البيان: ج2، ص6.

[3] الامثل: ج1، ص517-521.