ورد في الأخبار عن أئمة الهدى (عليهم السلام) الحثّ على رفع اليدين تجاه السماء أثناء الدعاء، عن محمّد بن مسلم: سَأَلتُ أبا جَعفَرٍ (عليه السلام) عَن قَولِ اللهِ عز وجل: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[1]، قالَ: (الاِستِكانَةُ هِيَ الخُضوعُ، وَالتَّضَرُّعُ رَفعُ اليَدَينِ، وَالتَّضَرُّعُ بِهِما)[2].
وعن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - أن زنديقاً سأله فقال: ما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ذلِكَ في عِلمِهِ وإحاطَتِهِ وقُدرَتِهِ سَواءٌ، ولكِنَّهُ عز وجل أمَرَ أولِياءَهُ وعِبادَهُ بِرَفعِ أيديهِم إلَى السَّماءِ نَحوَ العَرشِ؛ لِأَنّهُ جَعَلَهُ مَعدِنَ الرِّزقِ، فَثَبَّتنا ما ثَبَّتَهُ القُرآنُ)[3].
وعن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الدعاء ورفع اليدين فقال: (عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا التَّعَوُّذُ فَتَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِبَاطِنِ كَفَّيْكَ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الرِّزْقِ فَتَبْسُطُ كَفَّيْكَ وَتُفْضِي بِبَاطِنِهِمَا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَمَّا التَّبَتُّلُ فَإِيمَاءٌ بِإِصْبَعِكَ السَّبَّابَةِ، وَأَمَّا الاِبْتِهَالُ فَرَفْعُ يَدَيْكَ تُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَكَ، وَدُعَاءُ التَّضَرُّعِ أَنْ تُحَرِّكَ إِصْبَعَكَ السَّبَّابَةَ مِمَّا يَلِي وَجْهَكَ، وَهُوَ دُعَاءُ الْخِيفَةِ)[4].
لكن يتوهم البعض أن هذا إنما هو إشارة إلى جهة الفوق، والله منزه عن الجهة، وهو توهم خلاف الواقع، والصحيح إن رفعُ اليدين بالدّعاءِ لا يدُلُّ على ذلك، فإنه مِنَ المعلومِ أنَّ الإنسانَ في أغلب تعاملاته ينظر إلى الأشياءِ على أنها معانٍ يتعامل معها بعدة طرق، والوصول إليها متعدد، يكون عن طريق اللّغاتِ أو الرموز أو العلامات أو الإيحاءات والإشارات أو غير ذلك، ويبدُو أنَّ تعاملَ البشرِ معَ الرموزِ فِي كثيرٍ مِنَ الأحيانِ أمرٌ فطريٌّ وغريزيٌّ، فالابتسامة أو الدموعُ مثلاً تعبرُ عَن معانٍ خاصّةٍ فِي نفسِ الإنسانِ، بلِ البشرُ لهُمُ القُدرةُ على التّمييزِ بينَ الابتسامةِ السّاخرةِ وبينَ الابتسامةِ التي تحمِلُ الودَّ والمحبّةَ، وكذلك جميع الانفعالاتِ وردودِ الفعلِ الغريزيّةِ تمثلُ دلالاتٍ رمزيةً لمعانٍ خاصّةٍ، بل توجد هُناكَ رموزٌ متعلقة بالثقافة الخاصة لكلِّ مجتمع مثل أنواعِ السلامِ والتّحايا بينَ الشّعوبِ فالمُصافحةُ باليدِ، أو وضعُ اليدِ على الصدرِ، أو التحيّة العسكريّة، أو رفعُ القبّعة، أو الانحناء، أو غيرُ ذلكَ تُعَدُّ رموزاً للتواصل بين الناس، وإذا تتبّعنا دور الرمز في حياةِ البشرية لوجدنَا أنّه لا ينفصِل عن الحياة الطبيعية للإنسانِ.
وأيضاً لا يتحقق فهم الرمز من خلال شكله الخارجي مع تجاهل الجانب الدلالي لذلك الرمز، فمثلاً يعبِّر الإنسان أحياناً عن محبته للآخر بوضع يده على صدرهِ، أو يحكي له عن احترامه بوضع يده على رأسهِ، أو يعبر عن الطاعة أو القبول بأمر ما بوضع اليد على العين، فإن الإنسان يتعامل مع كل هذه الحركات من خلال الفهم الدلالي الذي تحتويه هذه الإشارات، وهذا لا يعني أنّ هذه الإشارات الرمزيّة تمّ التعامل بها بشكل عشوائي اعتباطي وإنما حصل ذلك التعامل لوجود مناسبة بين الشكل وبين المعنى، فرفعُ اليد في الدعاء هوَ الرمز المناسب الذي في دلالة على إظهار الحاجة والفقر والتذلّل للخالق العظيم، بل تقديم يدينِ خاليتينِ فوق الرأس أو بحذاء الوجه منبسطتين نحو السماء تكون أكثرُ تعبيراً عن الخضوع والتذلّل، والذي توهم الجهة من ذلك كان قد فسّر الحركة من خلال الشكل بعيداً عن المخزون الدلالي لهذه الحركة.
مجلة اليقين العدد (52)