جاء في كتاب (الفصول المختارة: ج1 ص11)، وفي كتاب (بحار الأنوار للمجلسي: ج10 ص414) أنّ الشيخ المفيد(قدس سره) تناظر مع أحد المتفقّهة من أهل السنة، والذي يُعرف بـ(الورثاني)، بحضور آخرين، ومنهم (الجراحي) وهو أيضاً من فقهائهم.
فقال الورثاني للشيخ المفيد: أليس من مذهبك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان معصوماً من الخطأ، مُبّرأ من الزلل، مأموناً عليه من السهو والغلط، كاملاً بنفسه غنياً عن رعيته.
فقال الشيخ المفيد: بلى.
فقال الورثاني: فما تصنع في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُم في الأَمرِ فَإذا عَزَمتَ فَتَوكّل عَلى اللهِ)[1]، ألا ترى في هذه الآية أنّ الله قد أمر نبيه(صلى الله عليه وآله) بمشاورة أصحابه في الرأي وقد أفقره إليهم، فكيف يصحّ ذلك مع ما تقدم؟
فقال المفيد: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يشاور أصحابه لفقر منه إلى آرائهم ولا لحاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ما ظننت وتوهّمت، فنحن نعلم أنّه كان معصوماً من الكبائر والصغائر وإن خالفتنا في عصمته من الصغائر، فهو أكمل الخلق وأحسنهم رأياً وأوفرهم عقلاً، ودائم الاتصال مع الله وملائكته، فإذا كان شخص بهذه الصفات ما له من داعٍ لاقتباس الرأي من رعيته؛ لأنّه ليس أحد من أصحابه إلا وهو دونه في سائر ما عددناه.
وأمّا الآية فتبيّن ما قلت أنا لا ما أسلفت أنت، ألا ترى أنّ قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُم في الأَمر ِفَإذا عَزَمتَ فَتَوكّل عَلى اللهِ) أي: تعلق وقوع الفعل بعزم النبي(صلى الله عليه وآله) دون تعلقه برأيهم ومشورتهم، وأمّا وجه الدعوة للمشورة، فالله قد أمره بذلك حتى تكون سنة بين الصحابة عند مواجهة الملمات، ليتأدّبوا بآداب الله عزّ وجلّ.
وهناك وجه آخر يدعو للمشورة وهو أنّ الله سبحانه أعلم النبي(صلى الله عليه وآله) أنّ في أُمّته مَن يبتغي له الغوائل ويتربص به الدوائر، ولم يعرّفه بأعيانهم، فقال عزّ اسمه: (وَمِن أهلِ المَدينةِ مَرَدُوا على النِّفاق لا تَعلَمُهُم نحن نَعلَمُهُم...)[2]، ثمَّ قال سبحانه بعد أن أنبأه عنهم في الجملة: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ...)[3]، فجعل الطريق لمعرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم بمشورتهم، فالمنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم(صلى الله عليه وآله) لذلك، ألا ترى أنّهم لما أشاروا ببدر على النبي(صلى الله عليه وآله) في الأسرى كانت نياتهم مشوبة بأهداف وغايات، غير مصلحة الإسلام، فكشف الله تعالى ذلك له وذمهم عليه وأبان عن ادغالهم فيه، فقال جلّ وتعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[4]، فوجّه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم، وأبان لرسوله(صلى الله عليه وآله) عن حالهم، فيعلم أنّ المشورة لهم لم تكن للفقر إلى آرائهم، وإنّما كانت لما ذكرناه.
فقال الجراحي: يا سبحان الله! أترى أنّ أبا بكر وعمر كانا من أهل النفاق؟ وما رأينا أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين فهذا ما لا نصبر عليه، ولا نقوى على استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق فاعتمد على الوجه الأوّل، وهو أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أراد أن يتألّفهم بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في أُمورهم.
فقال المفيد: لم نذكر إنساناً بعينه، وإنّما أتينا بمجمل من القول، ففصله الجراحي وكان غنياً عن تفصيله.
فصاح الورثاني: الصحابة أجلّ قدراً من أن يكونوا من أهل النفاق، وسيما الصديق والفاروق.
فقال الشيخ المفيد: دع عنك الضجيج، وتخلّص مما أوردته من البرهان، واحتل لنفسك وللقوم، فقد بان الحقّ وزهق الباطل بأهون سعي، والحمد لله.
مجلة اليقين، العدد (56)، الصفحة (8 - 9).