إن القرآن الكريم كتاب تحدّى به اللهُ الإنسَ والجن على أن يأتوا بمثله، أو ببعض سوره وآياته، فلم ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، مع أن الذين تحداهم لم يكونوا جهلاء باللغة والكلام، بل كانوا أبلغ الناس وأفصحهم، بحيث عُلّقت أشعارهم على جدران الكعبة إعجاباً ببلاغتها وفصاحتها، والقرآن لم ينزل إلا بلغتهم، ولم يخالف قواعدهم الكلامية، ومع هذا أعلنوا عجزهم التام الكامل، واستمر التحدي على مدى الدهور، فلم يستطع أحد من الخلق أن يأتي بشيء من ذلك في حقبة من الزمن، وهذا يدل على أن هذا القرآن هو كلام غير البشر، ولو كان هذا كلام بشر لاستطاع بعض الخلق أن يأتي بمثله أو قريباً منه، والأدلة على هذا التحدي من القرآن كثيرة منها قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)[1].
وبعد أن ثبت أن القرآن الكريم هو كلام لله تعالى، فلابد من أن تكون آياته حجّة، فلا يحتاج في ثُبُوته إلى تأييد فرد أو جماعة، فهو النصّ الإلهي الموجود منذ عصر النبي (صلى الله عليه وآله) حتى يومنا هذا، وهو ثابت بالتواتر القطعي منذ عهد الرسالة وإلى هذا اليوم.
وبما أن الله تعالى ضمِن حفظ القرآن الكريم من التحريف زيادةً ونقصاناً حيث قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[2]، وقال جلَّ جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[3]، فهذا دليل على أن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الإلهي.
فالآية المباركة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[4]، جاءت مواساة للنبي(صلى الله عليه وآله) من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أخرى، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة، ألا وهي حفظ القرآن من التلاعب والتحريف، فبناء هذا القرآن مستحكم، وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال، ومصباح هديه أبديّ الإنارة، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكّامه الظلمة، محفوفين بعلماء السوء، ومزوّدين بأقوى الجيوش عدّة وعتاداً، على أن يخمدوا نور القرآن، فلن يستطيعوا؛ لأنّ الحكيم الجبّار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته.
وقد اختلف المفسرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة، والصحيح، وفقاً لظاهر الآية المذكورة، أنّ الله تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي: من التحريف، من التلف والضياع، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية[5].
هذا وقد التزم النبي (صلى الله عليه وآله) إبلاغ هذا الكتاب العظيم إلى المسلمين الذين فاق عددهم حد التواتر، وحثَّهم على حفظه واستظهاره وكتابته، فسجّله كُتّابه الذين بلغ عددهم حسب بعض المصادر ما يُناهز الأربعين كاتباً.
ثم تتابعت جهود المسلمين في نقل القرآن الكريم واهتمت الأجيال برعايته حفظاً وكتابةً حتى نجد أن الملايين من المصاحف المكتوبة عبر العصور والمطبوعة تتفق على نص واحد مُجمع عليه.
وكذلك اتفقت المذاهب الإسلامية كلها على أن ما بين الدفتين من الألفاظ والمعاني والأسلوب نزل من الله دون نقص أو زيادة، وليس لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) أي دَخْلٍ في صياغته ووضعه، فالقول بتغيير القرآن الكريم مردود عند جميع المذاهب الإسلامية.
وما نقرؤه اليوم هو القرآن نفسه الذي كان يقرؤه المسلمون في العهد الأول، وما نجده اليوم من النص المثبت بين الدفتين هو الذي أثبته المسلمون الأوائل كما أخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا زيادة ولا نقصان.
مجلة اليقين العدد (51)