وهذا المسلك الفقهي منسوب إلى داود بن علي الاصفهاني الظاهري (ت ۲۰۰ ـ م ۲۷۰) وسمع من سليمان بن حرب وأبي ثور.
قال الخطيب: (كان إماماً ورعاً، زاهداً ناسكاً، وفي كتبه حديث كثير لكنّ الرواية عنه عزيزة جدّاً)[1].
وقال ابن خلّكان: (كان من أكثر النّاس تعصّباً للإمام الشافعي وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقلّ وتبعه جمع كثير ـ يعرفون بالظّاهرية ـ وكان ولده ـ أبوبكر محمّد ـ على مذهبه، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد)[2].
وقد بسط الخطيب الكلام في تأريخه ونقل بعض ما رواه وأشار إلى جوانب من حياته[3].
وما أسّسه من المذهب يرتبط بالفروع والأحكام، لا العقائد والأصول فالمصدر الفقهي عنده هو النّصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها وإذا لم يكن النصّ أخذوا بالإباحة الأصليّة.
أقول: إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكنّ الجمود على حرفيّة النصوص شيء والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيين شيء آخر. فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثّاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:
1ـ إنّ الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة -للقياس الذي يذكرها المناطقة- ضروريّ الإنتاج من غير فرق بين الأمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة، فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتميّة لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكلّ مسكر حرام، فالفقاع حرام. لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين ولكن لا يفتي بالنتيجة بحجّة أنّها غير مذكورة في النصوص.
2ـ ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيِّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: (فَلا تَقُلْ لَهُما اُفّ)[4] يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكنّ الفقيه الظّاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.
قال سبحانه: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يَغْفِرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ)[5] فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء) وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر لازم لهذا الحكم بالضّرورة وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد. ولكنّ الظّاهري يتركه بحجّة أنَّه غير مذكور في النصّ.
وهذا النوع من الجمود يجعل النُّصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتمية نبوّة نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله) وكتابه وسنتّه و....
وهؤلاء بين السنّة كالإخباريين بين الشيعة، غير أنّ الظاهرية ظهرت في القرن الثالث وقد عمل فيما لا نصّ فيه بالإباحة الأصليّة، والأخباريّة ظهرت في الشيعة في القرن العاشر وهم يعملون فيما لا نصّ فيه بالاحتياط[6].
المصدر: مجلة اليقين العدد (23)