من احترام الميت وتخليداً لذكراه الاعتناء بقبره وزيارته وإقامة بعض المراسيم عنده، وهي ثقافة عامة في جميع الحضارات الإنسانية على مر العصور، وهو أمر إيجابي في غالب الأحيان، خصوصاً عندما يكون الميت يتمتع بصفات أو أعمال لها أثر على مجتمعه وبلده كأن يكون مصلحاً اجتماعياً أو مرشداً دينياً أو قائداً عسكرياً، فإن الناس يزورون قبره لإحياء العزائم واستلهام المفاهيم التي كان ناشطاً فيها أيام حياته.
هذه نظرة عامة لمسألة الاعتناء بالقبور وزيارتها، أما في الثقافة الإسلامية فقد اختلفت الأحكام في هذه المسألة بين المذاهب والفرق الإسلامية حسب الموروث الثقافي التدويني لكل فرقة، إلا أنه يمكن القول أن الشيعة الإمامية فقط اختصت بثقافة زيارة القبور وتشييدها والاعتناء بها ومراقد الأئمة عليهم السام وأولادهم وأصحابهم شاهد واقعي على ذلك، بخلاف غيرهم.
ومرد كل ذلك إلى وصايا الأئمة، وحثّهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى، باعتبار أنها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أن هذه القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء الانقطاع إلى الله تعالى.
وجعلوها أيضا من تمام الوفاء بعهود الأئمة، ( إذ أن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته ، وأن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة).
وفي زيارة القبور من الفوائد الدينية والاجتماعية ما تستحق العناية من أئمتنا، فإنها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين الأئمة وأوليائهم، وتجدد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحق - تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرقين على صعيد واحد، ليتعارفوا ويتآلفوا، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع إليه وطاعة أوامره، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام.
كما إنّ لحفظ آثار رسول الله صلّى الله عليه وآله وصيانتها فوائدَ كبيرة، كذلك آثار الأنبياء عليهم السلام.. فاليومَ نجد تاريخ الديانات يفتقر إلى المعالم المذكِّرة بوقائع الرسُلِ السابقين، بينما يُواجه المسلمون العالَمَ مرفوعي الرؤوس، فتلك خصائص الرسالة المحمّديّة مصانةٌ محفوظة.. هنا الدار التي وُلدِ فيها النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهذا غارُ حِراء مَهبطُ الوحي، وذا مسجدُه الشريف، وتلك الحُجرة التي دُفن فيها، وهذه بُيوتاته وقبور بعض أولاده وزوجاته، وفي الأرجاء تشمخ أضرحةُ أوصيائه وخلفائه عليٍّ وآل عليّ سلام الله عليهم.
وبغض النظر عن هذا الكلام فإن لنا أدلة تقودنا الى جواز ورجحان هذا الفعل:
أولاً : الكتاب الكريم، قال سبحانه وتعالى : (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:84) .
فقد نهت الآية عن الصلاة والقيام على قبر المنافق، ومفهومها مطلوبية هذين الأمرين بالنسبة لغيره أي للمؤمن.
ثانياً: السنّة النبوية، فالنبي (صلى الله عليه وآله) جسّد بعمله مشروعية زيارة القبور - مضافاً إلى أنه أمر بها - وعلّم كيفيّتها وكيف يتكلّم الإنسان مع الموتى، فقد ورد في غير واحد من المصادر، أنه (صلى الله عليه وآله) زار البقيع، واليك بعض النصوص:
1- روى مسلم عن عائشة إنها قالت: ((كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلّما كان ليلتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون و إنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللّهم أغفر لأهل بقيع الغرقد))[1].
2- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال: (نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ، نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة)[2].
وغير ذلك من الآثار النبوية الحاثة على زيارة القبور، وللمزيد من التفصيل راجع أيضاً[3].
ثالثاً: الفطرة، فالنفوس السليمة تشتاق إلى زيارة لمن له بها صلة روحية أو مادية والإسلام دين الفطرة.
رابعاً: سيرة المسلمين، فانها جرت على زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) منذ وفاته وإلى يومنا هذا.
كما نقل العلامة الأميني في كتابه الغدير: 5ج/109 - 125) كلمات أعلام المذاهب الأربعة بما يتجاوز الأربعين كلمة حول الزيارة، لا يتسع المقام لذكرها.
هذا وقد تضافرت الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) حول زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) منها مثلاً:
روى الصدوق بسنده عن الإمام الرضا عليه السلام: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال : (من زارني في حياتي وبعد موتي فقد زار الله تعالى ....)[4].
روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة)[5].
وبالإضافة إلى هذه الأدلة هناك آثار تربوية وأخلاقية واجتماعية تنطوي عند زيارة القبور، ومن يشكّك في استحباب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) في الواقع يشكك في الأمور المسلّمة والمتفق عليها عند المسلمين .