الغنى الذاتي

بارئ الكون غني بذاته عن كل شيء، ولا حد ولا أمد لغناه، فكل ما يغمر جهات العوالم من خير وبركة، وما يملأ رحال الأفق من عناصر وقوى، وما يزخر به واسع الفضاء من أفلاك وأجرام، وما يزحم مناكب الأرض من حي وجامد، وما يسد فروجها من معادن وخزائن فهو فيض من غناه وبسط من جوده، ثم لو قدرنا الفناء على جميع هذه المكونات لم ينقص من غنائه مثقال ذرة، ولو أضيفت إليها أضعافها وأضعافِ أضعافها لم يزد ذلك في ملكوته قيد شعرة: ( قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)[1] أجل؛ كل ما يزخر به هذا الملكوت العظيم فهو في قبضته، وفناؤه وبقاؤه بمشيئته، فهل هذا هو معنى غناه الذاتي؟

قد يكون هذا مظهراً من مظاهر الغنى الإلهي، ولكنه لا يصلح أن يكون تفسيراً له.

وبارئ الكون يمنح الوجود والحياة، والقوة والسعة، والكمال والدعة، والرفعة والسيادة، والهناء والغبطة، وما يصبو إليه الإنسان في وجوده وما يتطلبه لبقائه وما يكدح للسيطرة عليه لسعادته، وما يفتقر إليه غير الإنسان من الأحياء والأشياء، لا لنفع يرتجعه من هذه المنح، ولا لجزاء يأمله كفاء هذه الهبات، وإنما هو محض الإحسان وسجية التفضل، وهو يفرض على الخلق أن يؤمنوا به ويكلفهم بأن يطيعوه ويلزمهم بأن يتبعوا دينه ويستمسكوا بشريعته لا لمنزلة يرجوها من إيمانهم، ولا لرغبة يبلغها في عبادتهم، وإنما هي دلالة لهم على وظيفة العبودية وأخذ بأيديهم إلى منهج السعادة، ثم لو كفر هؤلاء العبيد كلهم بنعمته وجحدوا بربوبيته لم تتضع بذلك له منزلة ولم يتخلخل له سلطان ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ...)[2]. فهل هذا هو معنى غناه الذاتي؟.

بارئ الكون غني في وجوده وفي كل نعت من نعوت كماله عن العلة، وغني في صنعه وفي كل مجلى من مجالي قدرته عن الظهير، وغني في تدبيره وفي كل ظاهرة من ظواهر حكمته عن المشير، ثم هو متنزه في ذاته وفي كل شأن من شؤون عظمته عن الحاجة، ومترفع في غناه وفي كل معنى من معاني جلالته عن التحديد.

وإذا تنزه عن الافتقار والحد والتعليل في كل معنى من معاني الكمال فهو عن العبث والظلم أشد تَنزّهاً وأعظم تعالياً.

هذا هو المعنى الظاهر للغنى الإلهي أو هو اللازم القريب من لوازمه.

فإذا أيقن المسلم لربه بهذا الغنى وإذا آمن له بهذا التنزيه، فهل يستطيع أن يؤمن أيضاً بأنه يستكمل بصفته أو يمتدح بعبث أو يستطيل بظلم؟.

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وتعالى المسلم أن يدين لربه بهذه العقيدة.

وتعالت عقيدة التوحيد في الإسلام عن مثل هذا الإسفاف وهذا الالتواء[3].

مجلة اليقين العدد (23)

 


[1] الفرقان: 15 – 17.

[2] سورة الزمر: 7.

[3] الإسلام منابعه، مناهجه، غاياته للشيخ محمد أمين زين الدين.