المذهب المالكي

تأسّس المذهب المالكي على يد مالك بن أنس في أوائل القرن الثاني الهجري، وهو أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي الحميري المدني المولود سنة (93ـ 179هـ) في المدينة المنورة، وهو من المذاهب الإسلامية السُّنيّة الأربعة، وقد تُبنّيت فيه الآراء الفقهية لمالك بن أنس.

سُميّ المذهب نسبة لمالك بن أنس، وبالكاد بلغ ابن مالك من العمر عشرين عاماً‏، وتطورت بعد ذلك معالم المذهب على يد تلاميذه من بعده، وصار له صيت شائع في زمن المنصور الدوانيقي، حتى قال له يوماً: (وَاللهِ لَئِنْ بَقِيْتُ، لأَكْتُبَنَّ قَوْلَكَ كَمَا تُكتَبُ المَصَاحِفُ، وَلأَبْعَثَنَّ بِهِ إِلَى الآفَاقِ، فَلأَحْمِلَنَّهم عَلَيْهِ)[1].

توسعت قاعدة المذهب المالكي في الحجاز أولاً؛ لأنه موطن ولادة مؤسسه كما أسلفنا، وبعدها انتشر سريعاً في شمال أفريقيا، ففي مصر عام 237هـ أُبعد أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وقُرّب أصحاب مالك، فتمدد المذهب المالكي على حساب المذهب الحنفي والشافعي، وكان للقاضي الحارث بن سكين الأثر الفاعل في نشره هناك، فكان يؤخذ بالمذهب المالكي إبّان الحكم الإسلامي لأوروبا في الأندلس وإمارة صقلية.

تبنّت دولة المرابطين في المغرب الأقصى مذهب مالك، ونشروا الكتب التي تحوي آرائه، فتوسع المذهب ورُسّخت قواعده، فقال ابن حزم: (مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان، الحنفي في المشرق، والمالكي بالأندلس)[2].

يعتبر السلفيون أن المذهب المالكي أصلاً من أُصولهم في استنباط الأحكام الفقهية لديهم، لا سيما المسائل الاجتهادية التي أقرّها بنفسه، والتي التزمها أتباعه بناءً على قواعده وأصوله.

اعتمد ابن مالك في أدلته الفقهية كغيره من علماء معاصريه على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، لكنه اختلف عنهم بأخذ قول الصحابي والمصلحة المرسلة، والعرف، والعادات، والاستصحاب، والاستحسان، وأحياناً يتوسّع فيه أكثر مما توسع فيه فقهاء العراق، وقد اشتهر على أَلسنة فقهاء المذهب المالكي قولهم: (ترك القياس والأخذ بما هو أرفق بالناس)؛ إشارة إلى أن الاستحسان في المذهب المالكي كان لدفع الحرج الناشئ عن اطّراد القياس.

والعرف أصل من أصول الاستنباط عندهم، لأنه في كثير من الأحيان يتفق مع المصلحة، والمصلحة أصل بلا نزاع في المذهب المالكي.

وقد مرّ المذهب المالكي منذ بداية تأسيسه إلى أن نضج واكتمل بمراحل علمية مختلفة، ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها، وميزاتها؛ التي تميِّزها عن غيرها.

ويمكن تلخيص أهم تلك المراحل بما يلي:

المرحلة الأول: مرحلة التأسيس:

 وبدأت يوم جلس ابن مالك للفتيا سنة 110هـ، وتنتهي هذه المرحلة بنهاية القرن الثالث الهجري، وأشهر كتبه هو كتاب (الموطأ)، وقد جمع فيه ابن مالك بين الفقه والحديث، وبناه على تمهيد الأصول والفروع، وفي هذه المرحلة برزت طائفة من تلاميذه، وألّفوا الكتب العديدة كالأمهات الأربع، وهي: (المدوَّنة، لسُحنون بن سعيد التنوخي)، وهي أصل الفقه المالكي وعمدته، و(الواضحة في السنن والفقه، لعبد الملك بن حبيب السُّلمي)، و(الموازيَّة، لمحمد بن إبراهيم، المعروف بابن الموَّاز)، وأَخيراً (العُتْبِيَّة: للعُتْبي) التي جمع فيها أقوال مالك وأصحابه، فاعتنى بها أهل الأندلس، وعكفوا عليها، حتى كان أهلها يغالون في مالك وفقهه، وقد التزموا فتواه؛ نظراً لإلزام السلطة لهم.

وأما المرحلة الثانية:

فهي مرحلة التطور والانتشار، فكانت على يد كبار علماء المالكية؛ الذين فرَّعوا، وطبَّقوا أسس ابن مالك واجتهاداتهم فيها، وتبدأ هذه المرحلة مع بداية القرن الرابع الهجري تقريباً، وتنتهي بنهاية القرن السادس وبداية القرن السابع، وهي مرحلة الشروح، والمختصرات، والحواشي، والتعليقات، وهي سمة تظهر غالباً حين يصل علماء المذهب إلى قناعة فكرية بأن اجتهادات علماء المذهب السابقين لم تترك مجالاً لمزيد من الاجتهاد، إلا أن يكون اختصاراً، أو شرحاً على كتب السابقين، وقد شهدت هذه المرحلة امتزاج آراء مدارس المذهب المالكي، وانصهارها في بوتقة واحدة؛ أنتجت كتباً فقهية تمثِّل المذهب بغض النظر عن الانتماء المدرسي.

المصادر:

(الفقه المالكي أصولا وفروعا لأبي عاصم بشير بن أبي بكر، الشرح الصغير لأبو البركات أحمد بن محمد العدوي، مقاصد الشريعة لجاسر عودة، ومضات فكر لمحمد الفاضل ابن عاشور، كتاب مقاصد الشريعة: د. جاسر عودة، اصطلاح المذهب عند المالكية لمحمد إبراهيم).

المصدر: مجلة اليقين العدد (36)


[1] سير أعلام النبلاء، الذهبي: ج8، ص61.

[2] انظر ابن خلكان 5: 195.