سأل شخص أبا الفتح محمّد بن علي بن عثمان ـ رجل دين وفقيه شيعي ـ يوماً: كيف يَصحُّ لكم أنتم الشيعة القول بعدل الله وعدم صدور الظلم منه جلّ وعلا؟! مع قولكم إنّ الله سبحانه وتعالى يُعذِّب الكافر في يوم القيامة بعذاب متصل غير منقطع، وما وجه الحكمة والعدل في ذلك؟ وقد علمنا أنّ هذا الكافر وقع منه كفره في مدّة محصورة وهي مدّة عمره كثمانين أو مئة سنة مثلاً، فكيف جاز أن يكون من العدل عذابه أكثر من زمان كفره؟ أَليس من العدل أن يمكث الكافر في العذاب مدّة عمره أو مدّة كفره فقط؟
فقال أبو الفتح: إنّ الحكمة لمّا اقتضت الخلق والتكليف، وجب أن يُرّغب العبد فيما أمر به من الإيمان بغاية الترغيب، ويُزجر عمّا نهى عنه في الكفر بغاية التخويف والترهيب! ليكون ذلك أدعى للمكلَّف في فعل المأمور به، وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه.
وليس غاية الترغيب إلّا الوعد بالنعيم الدائم، ولا يكون غاية الترهيب إلّا الوعد بالعذاب الخالد الأليم، وتخليد الكافر في العذاب الدائم ليس بخارج عن الحكمة قطُّ.
فقال آخر: جوابك جميل، غير أنّا نظنُّ أنّ الحال أفضت إلى ما ينفر منه العقل، وهو أنّ عذاب أوقات غير محصورة بمدّة يكون مستحقّاً على ذنوب بمدّة محصورة.
فقال أبو الفتح: أجل، إنّ الحال قد أفضت إلى أنّ الهالك على كفره؛ يعذَّب بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره، والعقل لا يشهد به ولا ينفر منه، فالمعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نِعم المعصي بها، ولذلك عُظِّم عقوق الولد لوالده لِعظَم إحسان الوالد عليه، وجلّت جناية العبد على سيده، لجليل إنعام السيد عليه، فلمّا كانت نِعم الله تعالى أعظم قدراً، وأجلّ أثراً من أن توفّى بشكر، أو تحصى بحصر، وهي الغاية في الإنعام؛ فلذا كان المستحق على الكفر به، وجحده إحسانه ونعمه، هو غاية الآلام، وغايتها هو الخلود في النار.
فقال شخص آخر: قد أجاب صاحبنا الشافعي عن هذه المسألة بجوابين، هما أجلى وأبين ممّا ذكرت.
فقال له السائل الأول: وما هما؟
قال: أمّا أحدهما فهو أنّ الله سبحانه، كما ينعم في القيامة على مَن وقعت منه الطاعة في مدّة متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية، وجب قياساً على ذلك أن يعذَّب مَن وقعت منه المعصية في زمان محصور متناهٍ، بعذاب دائم غير منقضٍ ولا متناهٍ.
وأمّا الجواب الآخر، أنّه سبحانه خلَّد الكفّار في النار لعلمه أنّهم لو بقوا أبداً لكانوا كفاراً.
فسأل أحدهم أبا الفتح: ما تقول في هذين الجوابين؟
فقال أبو الفتح: إنّ المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه وقياسه في الشرع، أمّا أصول العبادات والكلام في العقليات فلم تكن من صناعته، فمن نسب إليه الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب، فقد سبه، من حيث إنّ فساد هذين الجوابين لا يكاد يخفى عمّن له أدنى تحصيل.
أمّا الأول منهما: وهو مماثلته بين إدامة الثواب والعقاب، فإنّه خطأ في العقل والقياس، وذلك أنّ مبتدئ النعم المتصلة في تقدير زمان أكثر من زمان الطاعة، إن لم يكن ما يفعله مستحقاً، كان تفضلاً، ولا يقال للمتفضل المُحسن: لِمَ تفضَّلت وأحسنت، ولا للجواد المنعم، لم جدت وأنعمت.
وليس كذلك المعذَّب على المعصية في تقدير زمان زائد على زمانها، لأنّ ذلك إن لم يكن مستحقاً كان ظلماً، وحاشا لله أن يكون منه الظلم، ولا يجب المماثلة بالعلّة بين الموضعين حتى لا يوجب التخليد في العذاب.
والعقلاء مجمعون على أنّ مَن أعطى شخصاً على فعلٍ أكثر من مقدار أجره، فليس له - قياساً على ذلك - أن يعاقب شخصاً آخر على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه[1].
مجلة اليقين، العدد (65)، الصفحة (8 - 9).