قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1].
السلام العالمي في ظل الإسلام:
تدعو هذه الآيات الكريمة كل المؤمنين إلى السلم والصلح وتقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).
(سلم) و(سلام) في اللغة: بمعنى الصلح والهدوء والسكينة، وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطاعة، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى، ويستفاد من مفهوم هذه الآية أن السلام لا يتحقق إلا في ظل الإيمان، وأن المعايير والمفاهيم الأرضية والمادية غير قادرة على إطفاء نار الحروب في الدنيا؛ لأن عالم المادة والتعلق به مصدر جميع الاضطرابات والنزاعات دائماً، فلولا القوة المعنوية للإيمان لكان الصلح مستحيلا، بل يمكن القول أن دعوة الآية العامة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعية إلى الصلح، والسلام يستفاد منها أن تشكيل الحكومة العالمية الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصلح ممكن في إطار الدولة العالمية .
فأنه من واضح أن الأطر المادية الأرضية (من اللغة والعنصر و . . .) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتصال محكمة تربط بين قلوب الناس، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الذي يتجاوز كل الاختلافات، الإيمان بالله وإتباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني، ورمز ارتباط الأقوام والشعوب، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحج الذي يعتبر نموذجاً بارزا إلى اتحاد الأقوام البشرية بمختلف ألوانها، وقومياتها، ولغاتها، وأقاليمها الجغرافية وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانية في منتهى الصلح والصفاء، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى، وكيف أن الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على أعراضهم ونواميسهم يتضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصلح والأمان والسلام والطمأنينة.
ويحتمل أيضا في تفسير الآية أن بعض أهل الكتاب (اليهود والنصارى) عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته.
اياكم وستدراج الشيطان:
ثم تضيف الآية: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وهي تشير إلى أن كثير من الانحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجية على شكل مراحل حيث يُسمّيها القرآن (خطوات الشيطان).
(خطوات) جمع - خطوة - وهنا تكررت هذه الحقيقة من أن الانحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادة وخطرة كما في المثل العربي المعروف (إن بدو القتال اللطام).
فتارة تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدي إلى الحرب والدمار، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدي شرارات الشر الأولى لاشتعال لظى المعارك والحروب.
وجدير بالذكر أن هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرات وفي غايات مختلفة.
وذكر بعض المفسرين أن (عبد الله بن سلام) وأتباعه الذين كانوا من اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعض أحكامها، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتباع خطوات الشيطان.
ومن شأن النزول هذا يتبين أن الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة، فيجب التصدي للخطوات الأولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.
الشيطان أقدم عدو للإنسان:
وتتضمن جملة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، برهانا ودليلا حيّاً، حيث تقول: إن عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلا المخلصين الذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان.
جزاء الإنحراف بعد البيان:
الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فلو انحرفتم وسرتم مع وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهية.
المنهج بيّن، والطريق بيّن، والهدف بيّن، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصّرون، فاعلموا أن الله قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.
(بينات) بمعنى الدلائل الواضحة، ولها مفهوم واسع يستوعب الدلائل العقلية، وكذلك ما يتضح للإنسان عن طريق الوحي أو المعجزات[2].
مجلة بيوت المتقين العدد (61)