عقيدتنا في القضاء والقدر

من كلّام لأمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سأله سائلٌ شامي لما سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره؟

((وَيْحَكَ! لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لاَزِماً، وَقَدَراً حَاتِماً، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والعِقَابُ، وَسَقَطَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً، وَنَهَاهُمْ تَحْذِيراً، وَكلّفَ يَسِيراً، وَلَمْ يُكلّفْ عَسِيراً، وَأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً، وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرَهاً، وَلَمْ يُرْسِلِ الأَنْبِيَاءَ لَعِباً، وَلَمْ يُنْزِلِ الْكِتَابَ لِلعِبَادِ عَبَثاً، وَلاَ خَلَّقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار)).

لقد شغلت حرّية الإنسان في أفعاله الفلاسفة وأهل الأديان منذ أقدم العصور وأبعدها، وما زالت تشغلهم، حتى اليوم، فلقد اختلف فيها اليهود بعضهم مع بعض، والمسيحيون فيما بينهم، والمسلمون كذلك، فذهبت فئة من كلّ أهل دين على أن الإنسان مغلوب على أمره، ولا حرّية له في تصرفاته، ولا وجود لشيء من شخصيته، وإنما هو كريشة في مهبّ الريح، وأكّدت فئة أخرى من الأديان الثلاثة الحرّية التامة للإنسان، والمسؤولية الكاملة في جميع تصرفاته وأفعاله.

وعند المسلمين ذهب قوم وهم (المجبّرة) إلى أنه تعالى هو الفاعل لأفعال المخلوقين ولا دخل للإنسان في كلّ فعل يصدر عنه، فالإنسان عندهم مجبر على فعل المعاصي والله مع ذلك يعذّبه عليها، والإنسان مجبر على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبه الله عليها، لأنهم يقولون: إن أفعالهم في الحقيقة أفعاله وإنما تنسب إليهم على سبيل التجوز لأنهم محلها، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء، وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وهذا يرجع الى وهم توهموه وهو إن الجبر هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

 وهذا القول كما ترى باطل لأن من يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون وهم (المفوضة) إلى أنه تعالى فوض الأفعال إلى المخلوقين وسلّطهم عليها ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أن نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وإن للموجودات أسبابها الخاصة وإن انتهت كلّها إلى مسبب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى. وهذا أيضاً من الباطل لأن من يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه، وأشرك غيره معه في الخلق.

أما الشيعة الإمامية فتعتقد في ذلك تبعاً لما جاء عن أئمّتنا الأطهار عليهم السلام من الأمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلّام، ففرّط منهم قوم وأفرط آخرون. ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلا بعد عدة قرون.

وليس من الغريب ممن لم يطلع على حكمة الأئمة عليهم السلام وأقوالهم أن يحسب إن هذا القول، وهو الأمر بين الأمرين، من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

وفي رواية عن محمد بن أبي عبد الله، عن حسين بن محمد، عن محمد بن يحيى، عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه السلام يبيّن فيها هذه المسألة بمثال سهل قال: لا جبر ولا تفويض ولكنْ أمر بين أمرين، قال: قلت وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية.

وخلاصته: إن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

وعلى كلّ حال، فعقيدتنا إن القضاء والقدر سرّ من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلا فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه لئلا يضلّ وتفسد عليه عقيدته، لأنه من دقائق الأمور بل من أدقّ مباحث الفلسفة

التي لا يدركها إلا الأوحديّ من الناس ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين. فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي.

ويكفي أن يعتقد به الإنسان على الإجمال إتباعاً لقول الأئمة الأطهار من أنه أمر بين الأمرين ليس فيه جبر ولا تفويض.