لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم

قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[1].

سبب النزول:

حدث خلاف بين صهر الصحابي (عبد الله بن رواحة) وابنته، وأقسم هذا الصحابي أن لا يتدخل في الإصلاح بين الزوجين، فنزلت الآية تنهى عن هذا اللون من القَسَم وتلغي آثاره.

التفسير:

لا ينبغي القَسَم:

 كما قرأنا في سبب النزول أن الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الاستفادة من القَسَم.

في الآية الأولى يقول تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(الأيْمان) جمع (يمين)، و (عُرضة) بضم العين، تقال للبضاعة وأمثالها التي تعرض أمام الناس في السوق، وقد تطلق العرضة على موانع الطريق لأنها تعترض طريق الإنسان.

وذهب البعض إلى أن المراد بها ما يشمل جميع الأعمال، فالآية تنهى عن القَسَم بالله في الأمور الصغيرة والكبيرة، وعن الاستخفاف باسمه سبحانه، وبهذا حذّرت الآية من القَسَم إلا في كبائر الأمور، وهذا ما أكّدت عليه الأحاديث

الكثيرة، فقد روي عن الصادق (عليه السلام) (لَا تَحْلِفُوا بِالله صَادِقِينَ ولَا كَاذِبِينَ فَإِنَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: * (ولا تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ)[2]). [3]

وأيضا ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق (عليه السلام) أنه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ أَجَلَّ اللَه أَنْ يَحْلِفَ بِه أَعْطَاه اللَه خَيْراً مِمَّا ذَهَبَ مِنْه)[4].

وأيضا عنه (عليه السلام) أنه قَالَ: (اجْتَمَعَ الْحَوَارِيُّونَ إِلَى عِيسَى (عليه السلام)، فَقَالُوا لَه يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ أَرْشِدْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ مُوسَى نَبِيَّ الله أَمَرَكُمْ أَنْ لَا تَحْلِفُوا بِالله كَاذِبِينَ، وأَنَا آمُرُكُمْ أَنْ لَا تَحْلِفُوا بِالله كَاذِبِينَ ولَا صَادِقِينَ)[5].

ولو أخذنا سبب نزول الآية بنظر الاعتبار يكون مؤداها أن القَسَم ليس بعمل مطلوب في الأعمال الصالحة، فكيف بالقَسَم بترك الأعمال الصالحة؟!

وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأن القَسَم لا ينبغي أن يكون مانعا من أعمال الخير فتقول: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي عن إرادة واختيار.

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى نوعين من القَسَم:

الأول: القَسَم اللغو الذي لا أثر له، ولا يعبأ به، هذا النوع من القَسَم يتردد على ألسن بعض الناس دون التفات، ويكرّرونه في كلامهم عن عادة لهم، فيقولون: لا والله... بلى والله... على كل شيء، وإنما سُمِّي لغوا لأنه لا هدف له ولم يطلقه المتكلم عن عزم ووعي، وكل عمل وكلام مثل هذا لغو.

عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (الصادق) (عليه السلام) قَالَ: (سَمِعْتُه يَقُولُ فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (لا يُؤاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ)، قَالَ اللَّغْوُ قَوْلُ الرَّجُلِ لَا والله وبَلَى والله ولَا يَعْقِدُ عَلَى شَيْءٍ)[6].

من هنا فالقَسَم الصادر عن الإنسان حين الغضب لغو (إذا أخرجه الغضب تماما عن حالته الطبيعية).

 كم أننا نعلم أيضا أنه بالإضافة إلى توفر القصد والإرادة والعزم في القَسَم الجاد، يجب أن يكون محتواه غير مكروه وغير محرم، وعليه إذا أقسم أحدهم مختارا أن يرتكب عملا محرما أو مكروها، فإن قَسَمه لا قيمة له ولا يلزمه الوفاء به، ويحتمل أن يكون مفهوم اللغو في هذه الآية مفهوما واسعا يشمل هذا النوع من الأيمان أيضا.

وحسب الآية أعلاه لا يؤاخذ الإنسان على مثل هذا القَسَم، وعليه أن لا يرتب أثرا عليه.

 ويجب الالتفات إلى أن الإنسان يجب أن يتربى على ترك مثل هذا القَسَم وعلى كل حال فإن العمل بهذا القَسَم غير واجب ولا كفارة عليه، لأنه لم يكن عن عزم وإرادة.

النوع الثاني: القَسَم الصادر عن إرادة وعزم، هو القَسَم الجاد الإرادي الذي قرره المرء بوعي منه، وبالتعبير القرآني هو القَسَم الداخل في إطار كسب القلب، وقد أشارت الآية (89) من سورة المائدة إلى هذا النوع من القَسَم بقولها: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ).

ومثل هذا القَسَم معتبر، ويجب الالتزام به، ومخالفته ذنب موجب للكفارة إلا في مواضع سنذكرها.

 الأيمان غير المعتبرة:

الإسلام لا يحبذ القَسَم كما أشرنا آنفا، لكنه ليس بالعمل المحرّم، بل قد يكون مستحبا أو واجبا تبعا لما تترتب عليه من آثار.

وهناك أيمان لا قيمة لها ولا اعتبار في نظر الإسلام، منها:

1 - القَسَم بغير اسم الله وما شابهه، وحتى القَسَم باسم النبي وأئمة الهدى (عليهم السلام) مثل هذا القَسَم غير المتضمن اسم الله تعالى وما شابهه لا أثر له ولا يلزم العمل به ولا كفارة على مخالفته.

2 - القَسَم على ارتكاب فعل محرم أو مكروه أو ترك واجب أو مستحب، حيث لا يترتب عليه شيء، كأن يُقسِم شخص على عدم أداء دين، أو على قطع رحم، أو على فرار من جهاد، وأمثالها أو يترك إصلاح ذات البين مثلا، كما نلاحظ ذلك لدى بعض الأشخاص الذين واجهوا بعض السلبيات من إصلاح ذات البين فأقسموا على ترك هذا العمل. فإن أقسم على شيء من ذلك فعليه أن لا يعتني بقسمه ولا كفارة عليه، وقيل إن هذا هو معنى قوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمْ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ).

أما الأيمان - التي تحمل اسم الله وما شابهه - على أداء عمل صالح، فيجب الالتزام به، وإلا وجبت على صاحبه الكفارة كما ذكرته الآية (89) من سورة المائدة: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ)[7].

مجلة بيوت المتقين العدد (69)

 


[1] البقرة: 224- 225.

[2] البقرة: 224.

[3] الكافي: ج7، ص434.

[4] الكافي: ج7، ص434.

[5] الكافي: ج7، ص434.

[6] الكافي: ج7، ص443.

[7] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج2، ص137- 140 بتصرف.